18‏/12‏/2008

إلى مجسد الجمال : أوجست رودين !


عزيزي (أوجست رودين) ..


يشرفني أن أكتب إليك بعد مضي حوالي اثنان وتسعون عاماً على وفاتك (وأرجو أن تعذر لي تأخري هذا ) ..


أفتخر بأني تشرفت بمطالعة تحفة برونزية ولدت على أصابعك ومطرقتك وأزميلك ..

وأسمح لي بأن أختص أحدى تحفك العظمية في موضوعي هذا ..

عزيزي (أوجست رودين) ..

أنا أتكلم عن تمثال يتكلم فكراً عظيماً ، وينطق معاني صامتة ..

تمثال تمثلت فيه أبدع أنواع التمثيل الجسدي والفكري معاً في تماثل وتجانس بديع ونادر ..

(المفكر) ..

هذا اسمه يا عزيزي ..

أو كما سميته أنت ..

أو كما سمي التمثال نفسه !


عزيزي (أوجست رودين) ..

لن أقحم في موضوعي هذا رواسب أفكار قومي عن الفن والجمال خصوصاً فن النحت ! لذلك سأحاول تسمية تحفتك هنا بـ (تمثال المفكر) وليس (صنم المفكر) ..

أيضاً سأحاول إخراس الأفواه الغوغائية من قومي إذا تفوه أحدهم بكلمة (عورة) بمجرد رؤيته لتمثالك .. فنحن قوم معروف عنا بأننا نداري الجمال بالقبح ، ونزين القبح بجمال زائف !


عزيزي (أوجست رودين) ..

لعلك تتفق معي بأن هناك أشياء معينة في عالمنا لا وطن لها ولا حتى لغة أو ديانة محددة ، (النار ، الحب) هما أوضح مثال لما أقول يا عزيزي .. فدعني أضيف لهما كلمة (الفن) في موضوعي هذا ..


(أوجست رودين) ..

دعني أتساءل وأنا أتطلع إلى تمثالك هذا :

كيف ؟!

كيف خلقت من أشلاء البرونز كل المعاني المعروفة لكلمة (فكر) ووضعتها في تحفتك هذه ؟

كيف جعلت معدناً يفكر بهذا العمق ؟

كيف جعلتني أنا أفكر فيما يفكر تمثالك المفكر هذا ؟

بما كنت تفكر أنت وأنت تقوم بصنعه يا رودين ؟

لماذا لم تتم صنعك وتجعل تمثالك يتكلم ويقول عما يشغله لهذه الدرجة ؟

هل تستمع بإغاظتي بتمثالك يا رودين ؟

هل أنت سعيد وأنت ترى الحائرين وهم ملتفين حول (مفكرك) هذا متخذين نفس وضعه ؟؟

لماذا تضيف سراً أخر يعذبنا في حياتنا المعذبة أساساً ؟

من يعطيك الحق – وحدك – في معرفة غموض ذلك التمثال ؟

أأنت فعلاً من صنع هذا التمثال ؟ أم هو من صنعك ؟

لماذا لم تكتفي بعمل تمثال (عروسة بحر) عاري الصدر ؟

هل ضقت ذرعاً بتساؤلاتي هذه ؟


إذن سأشفق عليك عزيزي رودين ، برغم قسوتك أنت علي أنا وعلى ملايين غيري ..

سأسكت أنا الآن ، ودع أنت تمثالك يفكر ..

سألتزم الصمت .. لعل تمثالك يتكلم ..




عزيزي (أوجست رودين) ..

أنا في انتظار ردك ..


وائل عمر !

23‏/10‏/2008

عملاق ينام بعيون متسعة ؟!

شاهدت منذ فترة قريبة فيديو قصير جداً أوقعني في حبائل ذهنية رهيبة للغاية بسبب فكرته العميقة – برغم قصر مدته – والتي جمعت قواعد السخرية والواقعية والتجريدية والعبثية أيضاً ..

هذا الفيديو سيكون أساس لا يمكن إنكاره لهذا الموضوع ! بناءاً عليه فضلت إثارة الحواس التخيلية لديك أنت ! لذلك قررت وصف الفيلم هنا عوضاً عن إدراجه بين ثنايا الموضوع .. لنقل أني أهديك دار عرض خاصة (سينما) داخل تعاريج مخك !

لنبدأ الوصف :

المكان : تلتقط الكاميرا عدة مشاهد سريعة من زوايا مختلفة لمركز تجاري راقي وفخم (Mall) .. يمكنك الجزم بأن هذا المركز الأنيق لا يتواجد في دولة عربية ! بل في أحد الدول الأجنبية (تقريباً أمريكا) .. وذلك بسبب تلك الملامح الغريبة والبعيدة عن ملامح سكان الشرق الأوسط ! أشخاص منهمكين في الشراء هنا وهناك .. بعضهم مشغول بمشاهدة واجهات المحلات الفخمة وبعضهم يتحادث أثناء تجواله بلا اكتراث أمام المحلات !

لقطة سريعة لبعض الأطفال وهم يلعبون بأرجوحات بلاستيكية في سعادة وبراءة طفولية تناسب سنهم ..

تتقدم الكاميرا ببطء نحو أحد السلالم الكهربائية التي تتوسط المركز التجاري ! بإمكانك تمييز جمع من الناس يقارب العشرة أفراد يستقلون هذا السلم .. أعمارهم مختلفة نوعاً ما ..

هنا سكنت حركة الكاميرا تماماً وعدستها مركزة على ذلك السلم !

بإمكانك مشاهدة حركة السلالم الكهربائية وهي تتصاعد في وضوح تمام ! أيضاً يمكنك مراقبة ملامح هؤلاء الأشخاص .. وبالتالي تعبيرات وجوههم !


وفجأة ..

تعطلت حركة السلم الكهربائي وتوقف عن العمل !!

بدأت معالم الاستنكار على من يستقلون ذلك السلم .. وبدأت صيحات السخط تتصاعد ..

أحدهم طرق بعصبية على سياج السلم محاولاً تنبيه أحد المسئولين عن السلم لتدارك إصلاحه ..

إلا أن برهة ليست هينة من الوقت مرت دون أن يعمل السلم مرة أخرى !!

ولا يزال مرتاديه في مكانهم لا يتحركون ، بعضهم جلس في مكانه على درجات السلم في يأس مستسلم .. وبعضهم مازال محتفظاً برباط جأشه في صبر مشوش ..

  • ثمة هناك فتاة بدأت تنهار من هول الموقف ، فارتمت في أحضان صديقها الذي بدا متماسكاًَ حتى هذه اللحظة ..


  • رجل يبدو من هيئته أنه رجل أعمال قام بإخراج هاتفه المحمول واتصل بشركته ليبلغهم باحتمال تأخره نظراً لوقوع عطل فجائي في السلم الكهربائي ..


  • طفلة جميلة بدأت تصدر نشيجاً ينذر بنوبة بكاء هلعة قريباً !


  • رجل عجوز بدأ يتلو صلاته وأخذ يناجي ربه في تضرع كي ينقذه من هذا الموقف العصيب !


  • شاب مراهق يبدو هادئ الملامح تماماً وترتسم على وجهه ملامح اللامبالاة المميزة لمن في سنه ، إلا أنك يمكن ملاحظة ارتعاش يديه !


  • بعض الناس المحظوظين في الأدوار العليا والسفلى اجتمعوا حول السلم ويراقبون ذلك الحدث المرعب .. بعضهم بدأ يشير إلى السلم وينبه أقرانه إلى تلك المصيبة التي تحدث الآن ! يمكنك سماع شهقات الفزع منهم بسهولة تامة !


مرت ساعة حتى الآن .. والوضع كما هو ..

إلى أن وصل فريق الدعم الفني وبدأ في إصلاح العطب في السلم ..

وتنفس الجميع الصعداء عندما عادت الحركة إلى السلم مرة أخرى .. بعض من الجمع الغفير أخذتهم الحماسة وصفقوا بحرارة إلى فريق الدعم الفني الشجاع ..

انتهى الفيلم بعبارة مقتضبة مفادها :

لا تعليق ..


هنا انتهى دور الفيلم في موضوعنا هذا .. إلا أني أرغب في تجاهل العبارة الأخيرة منه .. وسأستمر في التعليق عن الموضوع ..

ولكن بطريقتي أنا ..


* * * * *


في ثمانينات القرن التاسع عشر – أي ما بين عام 1880 وحتى عام 1889 – وقف لورد في مجلس اللوردات الإنجليزي يطالب بحرق مكتب (براءة الاختراعات) أو حتى هدمه !! وذلك لأن الإنسان توصل- عن طر يق العلم – إلى قمة الاكتشافات التكنولوجية الممكنة !! فقد تم اختراع القاطرة البخارية ، والتليفون ، والمراجل العملاقة ، وكاميرا التصوير الفوتوجرافي ، التلغراف البرقي ، والمناطيد الطائرة ، وأجهزة التكييف ، والعديد من الاختراعات الأخرى المفيدة .. وبناءاً عليه طالب ذلك اللورد بإلغاء فاعلية مكتب براءة الاختراع لعدم وجود فائدة منه فيما بعد ..


في عصرنا الحالي يمكننا إطلاق مصطلح (عبيط) أو (أهبل) لوصف ذلك اللورد دون أدنى إحساس بالذنب أو وجود وازع لتأنيب الضمير .. فأقل مقارنة بين حياتنا المعاصرة الآن وبين الحياة منذ مائة سنة ستؤكد (عبط) أو (هبل) هذا الرجل بالتأكيد ، ربما ستفضح هذه المقارنة غرور الإنسان نفسه وانبهاره الأرعن بما يقوم به من اختراعات !


دعنا نختصر المائة عام هذه ونجعلها عشرين عاماً فقط !

فقط عد بذاكرتك للخلف مجرد عشرين عام..

ستجد لديك فرق هائل وملحوظ فيما يسمى (الرفاهية الحياتية) ..

فرق رهيب ما بين اليوم وأمس ..

اختراعات عديدة بدأت تفرض نفسها بنعومة في حياة كل شخص منا ، حتى أصبح وجودها حتمياً بالنسبة لنا .. وبالتالي أصبح غيابها عبئاً رهيباً وخطيراً إلى معظمنا ..

كيف ؟؟!

سأقول لك ..


* * * * *


إذا كان عمرك تخطى السادسة عشرة عاماً .. فأنت إذن تعي حقبة معينة وقريبة من الآن كانت الحياة تختلف فيها بطريقة ملحوظة جداً عن الوقت المعاصر ..

في تلك الحقبة كانت العائلات تمتلك – مثلاً – خط تليفوني واحد في كل بيت ! وكان هذا الهاتف ثقيلاً نوعاً ما ، وكان يعمل بقرص دائري يحتوي على أرقام تستخدمه في طلب من تريد محادثته ! وكانت الخدمة التليفونية وقتها سيئة للغاية (الله يرحم يا بتوع المصرية للاتصالات) !! ويعتبر حظك عاثراً إذا وجدت الهاتف الذي تريد طلبه مشغولاً .. بالتالي يجب عليك المحاولة مرة أخرى (وأنت وحظك مع القرص) ..

بعد ذلك ظهر هاتف يعمل بالأزرار بدلاً من القرص ..

ثم أضيفت خاصية إعادة الاتصال (Redial) والذي اختصر المجهود والوقت الضائع في محاولة إعادة الاتصال ..

ثم جاء عام 1998 ..

وظهر في مصر عملاق رهيب وليد ثورة تكنولوجية اتصالاتية كادحة ..

المحمول ..

أو (الموبايل) كما هو شائع اسمه الآن ..

طفرة رهيبة جداً لا يمكن إنكارها في عالم الاتصالات !

أصبح من السهل جداً الوصول إلى أي فرد ترغب في التحدث معه بمجرد الضغط على عشرة أرقام !! سواء كان هذا الفرد في بيته أو حتى في الشارع ..

صار بإمكاننا التخلص من القيود (السلكية) والذي فرضها علينا هاتف المنزل الكئيب ..

المحمول في جيب الجميع (مع الاعتذار للحملة الإعلانية لشبكة موبينيل التعبانة) !

ولم يتوقف التطور في المحمول عند هذا الحد فحسب ..

فقد ظهرت أيضاً ميزة الرسائل القصيرة ، والتي تعتبر هامة نوعاً ما أيضاً بالنسبة لمفهوم الاتصالات ..


الجميل في تقنية المحمول أنه بدأ من حيث انتهى الجيل السابق في علم الاتصالات .. فلم نصادف يوماً محمولاً له (قرص دائري) بدلاً من لوحة الأرقام مثلاً !! أو محمول له زر لفتح وغلق الخط كالتليفون العادي !! بل هو مسار تقني مستقل بذاته تمرد على تقاليد أبيه العتيقة والبدائية نوعاً ما مقارنة به .. ربما كان هو أول أبن (عاق) يستحق الإعجاب في التاريخ ؟!

وتتوالى الطفرات الهائلة المنبثقة من تكنولوجيا المحمول لتحتل مكانها في جيوب حاملي المحمول .. ولا نملك إلا أن نصبر صاغرين في انتظار الجديد والذي يولد كل يوم بدون مبالغة .. ولم نستطيع أن نخفي شغفنا ولهفتنا وفضولنا إزاء (المولود التكنولوجي) القادم ..

فكأننا نقف – في قلق – خارج باب (غرفة الولادة) التكنولوجية في انتظار انتهاء العلماء من استخراج (جنين) حديث من (رحم) العلم ! وما أن نسمع صرخات الوليد نهرع عليه ونحتضنه بكل لهفة وسعادة ..


* * * * *

العام : 1998 (أيضاً) ..

ظهر نظام (Windows 98) إلى الوجود واحتل الصدارة من سابقيه :

(Windows 95 & Windows 3.11) !

وبدأ العالم يتقبل فكرة اقتناء جهاز كمبيوتر في كل منزل ..

في بداية الأمر أنتشر على استحياء ..

ثم اجتاح العالم بلا رحمة واحتل اهتمام الناس دون استئذان ..

وأصبح الكمبيوتر بديل طبيعي لعدة أجهزة منزلية كثيرة مثل (الفيديو ، الكاسيت ، ألعاب الفيديو ، الآلة الكاتبة ، التلفاز ، وأحياناً يحل محل الكتاب) !!

وأكتملت المنظومة كلياً عند أنضم صديقاً أخر للتحالف ..

أنه الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) !

أصبح من السهل على المرء فينا أن يجلس في حجرته أمام حاسوبه ، ثم يغادرها بسرعة البرق إلى أي مكان في العالم قبل أن يرتد إليه طرفه !

عادي جداً أن يعرف أخبار ما يحدث في أقصى الشرق من العالم ، وبعدها بثانية أخرى يتعرف على عادات وتقاليد شعب بأكمله يعيش في أقصى غرب العالم !

والوسيلة المستخدمة في ذلك هي (كابل ، حاسوب يحتوي على عدة أزرار) !

بالتأكيد لا حاجة لي هنا بمناقشة الإنترنت !! فأنت تستخدمه الآن بلا شك لقراءة هذه الكلمات !! سأبدو حينها بمن يستوقفك في الشارع وأنت تركب سيارتك ويقول لك : (أنت تركب سيارة لها أربع عجلات ، تسير بالوقود ، ولها عجلة قيادة ، وبها كلاكس ... الخ ) !!



* * * * *


من العبث أن أحصر الوسائل التكنولوجية الحديثة هنا !!

ممكن أن نذكر أشياء يسيرة وبسيطة ترد على خاطرنا بسهولة كنتيجة للتعامل المباشر معها .. لدينا مثلاً :

(أجهزة الاستقبال الرقمية المنزلية (الدش) ، الأقراص الممغنطة فائقة السعة (DVD) ، الميكروويف ، الوسائط المتعددة بأنواعها الكثيرة ، كاميرات التصوير بأنواعها المتعددة ، تكنولوجيا الفضاء ، وسائل المواصلات المرفهة ـ الأسلحة والمعدات الحربية ..

والقائمة مفتوحة بلا انغلاق ..

فمن بمقدوره أن يضع سداً أو حاجزاً للغزو التكنولوجي العارم ؟!

أجمل ما في ذلك الغزو هو انسياقنا نحن إليه !! نحن من نهرع إليه ونتوسل له ليضعنا ضمن مملكته !

أما من هو بمنأى عنه وبعيد عن سطوته فأننا نصفه بقرف واشمئزاز حضاري بأنه (متخلف) عن الزحف التكنولوجي !!

؟؟؟


* * * * *

امتحان مفاجئ ..

أجب عن جميع الأسئلة الآتية في سرك واحفظ إجابتها مؤقتاً في رأسك لحين انتهاء هذه الفقرة :

صف شعورك بالتفصيل عن حدوث حالة من الحالات الآتية :

  • انقطاع التيار الكهربائي لمدة ساعة كاملة ؟


  • عطل مفاجئ في سيارتك ؟


  • سماع نغمة بعينها من محمولك والتي تفيد بأن (البطارية فارغة) ؟


  • نظام التشغيل لحاسوبك توقف عن العمل (الويندوز ضرب) ؟


  • ثلاجتك أعلنت العصيان عن الدور البارد التي تقوم به ،وقررت التنكر على هيئة (دولاب) عطن في مطبخك ؟


  • فشل محمولك في إيجاد إشارة من الشبكة ؟


  • (عفواً .. المصعد عطلان) لافتة فوجئت بها أثناء استعدادك لركوب المصعد في رحلة قصيرة – ومجانية – إلى أحد الأدوار العليا !


  • موقد الميكروويف يتجاهل أوامرك له ، بل يصر في بلادة عدم تلقي أي أوامر منك !


  • ظهور شوشرة واضحة على القنوات الفضائية بسبب مشكلة الترددات في جهاز الاستقبال (Receiver) ! أو بسبب أن الرياح الموسمية قد قامت بمزاح ثقيل نوعاًَ ما مع طبق الاستقبال (Dish) فاختل وضعه أفقياً ورأسياً ؟


  • مشغل الأقراص المدمجة (CD Player) لديك يعاني من بعض الأتربة التي غطت العدسة القارئة ، لذلك فهو (يتقيأ) – بعند – كل اسطوانة تحاول جاهداً إدخالها في فمه البلاستيكي ؟


  • (الطامة الكبرى) : وردت لديك أخبار مؤكدة بأن خدمة الإنترنت في منطقتك أصابها عطل كبير وأن وقت إصلاحها قد يستغرق عدة أيام !!


  • (حتة رعب): أثناء سريانك في الشارع ، سمعت صوت هاتفك المحمول يصرخ في جيبك .. فتمد يدك لترد على طالبك !! لكن يحدث ما ليس في الحسبان وينزلق الهاتف من يدك إلى الأرض !! محمولك يمارس رياضة (التزلج على الأسفلت) برشاقة وخفة محدثاً صوتاً (خرشفياً) جراء الاحتكاك برمال الأسفلت الخشن .. من فضلك أذكر لي عدد ضربات قلبك في هذه اللحظة ؟؟


  • (حتة ياع) : بعد ممارستك لحقك البشري في المرحاض ، وبعد انتهاءك من ارتداءك لملابسك مرة أخرى .. توجهت بحسن نية مغلفة بنزعة (أوتوماتيكية) إلى الزر السحري في المرحاض والمسمى (صندوق الطرد المركزي) أو المعروف باسم (السيفون) .. إلا أنك فوجئت بسماع (تكة معدنية) غير مألوفة !! الزر مصاب بعطب جذري ولا يمكنه العمل !! من فضلك صف لي شعورك وأنت تواجه هذه المشكلة (التصريفية) الجادة ؟؟!


إذا راودك إحساس – ولو ضئيل – ضئيل بالهلع أثناء قراءة ما سبق ..

فاسمح لي بأن أضيفك ضمن الأشخاص الذي يحتويهم الفيلم القصير الذي تكلمت عنه في بداية هذا الموضوع !!

مرحباً بك في السلم الكهربائي !!

على الأقل في مخيلتي أنا ..


* * * * *


من المؤكد أن قدراتنا العقلية والذهنية قد تأثرت تحت تأثير النزح التقني الذي يتوغل في عالمنا كل يوم !

في طفولتنا مثلاً كان باستطاعة معظمنا أن يجري عمليات حسابية باستخدام ذهنه فقط .. 13 × 2 = 26 .. كان الناتج يخرج من عقولنا بطريقة تلقائية تماماً ..

ثم جاء ضيف أخر يسمى (آلة حاسبة) .. فاستخدمناه لإجراء عمليات حسابية معقدة ، هذه العمليات بمقدور العقل البشري إجراءها .. ولكنها تستغرق وقتاً طويلاً جداً لإجرائها .. كما أنها تحتاج لصفاء الذهن تماماً .. لذلك ابتكرنا هذه الأداة المساعدة لنا ..

وكانت النتيجة أننا أصبنا بخمول ذهني .. فاعتمدنا على هذه الآلة في إجراء عمليات أخرى بسيطة نسبياً ..

ومع الوقت أصيب العقل الحديث بالكسل أمام هذه العمليات الحسابية التافهة .. فأحياناً تجد شاب ناضج واقفاً في حيرة ويحاول حساب المتبقي من المائة جنية بعدما اشترى بما قيمته 83,35 جنية .. هل الباقي هو 26,75 جنية يا ترى ؟؟ الشاب يفكر ويفكر .. ويسعى جاهداً ألا يتعرض لمحاولة نصب من قبل البائع .. وإذا اخترقنا عقله أكثر وأكثر .. سنجد أن هناك إشارات كهربائية من مخه تصرخ قائلة فيه :

« استخدم الآلة الحاسبة الموجودة في (الموبايل) يا عم أنت وخلصنا ..» !


باختصار شديد جداً ..

لقد وقع معظمنا (وأنا معهم) فريسة لمرض مؤسف أسمه :

الصدأ الحضاري ..


فالتقدم التكنولوجي – بوسائله – يقدم لك الراحة وصفاء البال على وسادة فخمة وثيرة تتكئ برأسك عليها في خمول ناعس .. ثم يقوم عنك بأعمال كثيرة وعديدة .. وكل ما عليك هو الضغط على عدة أزرار مريحة هي الأخرى ! وتتركه يعمل أمامك في آلية مجردة ..

وصل الأمر أنك تدعه يتحكم في أمور كثير في حياتك ..

فأصبح يعمل أمامك .. ومن ورائك أيضاً ..

ولو اعتمدنا على ما تبقى لنا من قدرات تخيلية ، فيمكننا مشاهدة التكنولوجيا برزت لها أنياب طويلة تتسلل إلى عقولنا .. ثم تبدأ بإذابة حواسنا واحدة تلو الأخرى في صبر رهيب تمتلكه آلياتها ..


مارد رهيب جداً لكنه بسيط جداً .. مكون من قطع بلاستيكية وقليل من المعادن موصلة بدوائر سيليكونية لامعة ..


ربما لهذا السبب تبلورت أفلام الخيال العلمي كلها في أن المستقبل سيشهد تمرد تلك الآلات على الإنسان وتبدأ في محاربته في تأني واثق .. لا مشاعر ولا مجال للحظة ندم واحدة ..


ويتركز دور الإنسان في تلك الأفلام على الصراخ والهلع .. ثم الهرولة هنا وهناك في تخبط حائر .. وأخيراً يموت في هدوء على قارعة الطريق بفعل أسلحة وحش آلي يتخطاه في هدوء لا مبالي .. ويراجع برمجياته بقصد البحث عن كائن أخر يزهق روحه في برود !!


قد تكون هذه نبوءة تعلن نهايتنا على الأرض ..

وقد يكون المستقبل أكثر رفاهية لنا ..

إلا أن بوادر هذه التقنية مخيب للآمال ..

فالتلوث في عالمنا ارتفع للغاية في القرن الأخير بسبب رفاهية البشر ..

واختلف معنى الحروب – تماما – بسبب التقنية الحديثة في القتل الجماعي ..

وانتشرت الأمراض المستعصية العديد على قدرات فهم وإدراك الإنسان .. فوقف أمامها عاجزاً يراقب آثارها المميتة ، ولا يملك إلا أن يقلب كفيه كدليل على العجز أمام بضع فيروسات تافهة لا ترى حتى بالعين المجردة ..

لقد تحولنا إلى مدللين ننعم بوسائل معيشية رغدة ..

إلا أننا نبكي هلعاً بمجرد غيابها عنا ..

في نفس الوقت لا نستحي بأن نعلن غرورنا بقدراتنا العقلية الفائقة ..

غريب أمرنا هذا !!


* * * * *


مشهد مسرحي قصير جداً ..

المكان :

أبعد مما تتخيل ببلايين ملايين السنين الضوئية ..

الزمان :

لا يوجد !


ينحني دخان سرمدي على أذن ثقب أسود بجواره ويسأله في تعجب وهو يشير إلى نقطة ما بعيدة :

  • ما بال هذا الكويكب الأزرق هناك ؟؟ لماذا يرتجف هكذا ويتصاعد منه أدخنة كثيفة ؟؟
  • لا أعرف يا عزيزي .. لقد جنت هذه النقطة الزرقاء كثيراً مؤخراً .. يبدو أنها ستبدأ رحلتها الطويلة لتستقر في أحشائي !

ينظر الدخان السرمدي في حيرة إلى الثقب الأسود .. فبادله الثقب الأسود نظرته في هدوء .. ثم غمز له في خبث وثقة ..

وهنا استشف الدخان السرمدي مغزى كلامه .. فتبادلا معاً ضحكة ساخرة طويلة وقاسية ..

؟!


8‏/10‏/2008

الخوف الأعظم !


من أكثر الأحاسيس مشاعاً بين الجنس البشري – قاطبة – هو الإحساس بالخوف ! وقد بدأ معه هذا الإحساس منذ بداية تواجده على هذا الكوكب ، عندما بدأ يعي معنى الإحساس بالزمن والألم والشبع والحب وما إلى ذلك ! إلا أن الخوف قد تسيد على شعوره بطريقة مبهمة وقوية ، فقد بدأ يخاف من البيئة المحيطة من حوله (كالظواهر الطبيعية التي فشل في تفسيرها وقتها) ، أو الخوف من الحيوانات كلها ..ثم بدأ يميز الحيوانات التي يمكن استئناسها والسيطرة عليها ، وركز جام خوفه من الحيوانات الشرسة والمفترسة بعد أن فشل في ترويضها !!

وعندما بدأ الإنسان يعيش في جماعات ، أنتشر خوف الضعيف منهم من القوي فيهم ، وانتشر مفهوم الخوف على منهجية أكبر قليلاً ..

ومع نمو الزمن وانتشار الإنسان على الأرض .. بدأ مفهوم الخوف يتسع ويزداد معه أينما ذهب ! وكلما ولدت حضارة جديدة في منطقة أخرى ، زحف الخوف معه كأنه رفيق محتوم ومختوم على وجود الإنسان ذاته ..


المجهول ..

هو أكثر ما يؤرق الإنسان ..

فمصيره مجهول ، ولا توجد وسيلة جادة وفعالة لكشف ذلك المجهول .. لهذا بدأ الإنسان يتجه إلى السحر ! وأبتكر وسائل عجيبة للتنجيم وكشف الغيب !! إلا أنه تمرد عليها – كدأبه – وحاول التوصل إلى وسائل أخرى أكثر فعالية من مجرد (أوراق كوتشينة أو بلورة سحرية) ، وبدأ يستعمل ما بحوزته من العلم ليشق بحار المجهول الطلسمية العميقة ..

كم هو كائن مثابر !!


وهنا لا أريد التوغل في أفرع الخوف المتشابكة (الفزع ، الهلع ، الرعب ، الارتياع ، الرهاب .. الخ) ، فالقائمة مفتوحة باتساع رهيب ولا يمكن حصرها ببساطة مهما بلغت درجة تخصصي ! إنما أردت هنا التكلم عن جزء يسير منه .. لنقل أنه مجرد (شيء من الخوف!) وليس الخوف كله ..


* * * * *


« كل منا له وحش معين يعبر عن خوفه !! » ..

في ثنايا العقل الباطن صور تقريبية ومبهمة لوحوش عديدة كنا نرهبها في طفولتنا !! فعندما أكتب أنا كلمة لها علاقة تخيلية مخيفة لطفولتك .. فأنت تتخيلها بطريقتك الخاصة حسب ما يمليه عليك عقلك الباطن .. مثلاً إذا قلت :

(أمنا الغولة)

ثق تماماً بأن مخاوف عديدة قد تكتلت عليك في طفولتك ثم اختزنت في عقلك الباطن وكونت لديك صورة مجسدة عن الخرافة المسماة (أمنا الغولة) !! فلا يعقل أن تتخيل (أمنا الغولة) على أنها (بيضاء البشرة – شقراء الشعر – زرقاء العينين – هيفاء القوام) .. بل هي مزيج من ألعن واقبح الذكريات المختزنة من رواسب طفولتنا المرعبة .. ولهذا السبب فإن كل شخص منا له وحشه الخاص في مخيلته .. سواء كان (أمنا الغولة) أو (أبو رجل مسلوخة) أو حتى (النداهة) .. كلها وحوش فردية وغير موحدة الهيئة ، تتكالب عليك لترضخ – أنت – تحت اسم الخوف !!

حاول أن تتذكر وحشاً ما أثار لديك مشاعر الخوف المبهمة ! ليس بالضرورة أن يكون بشع الخلقة أو وحش ذو أنياب ومخالب ، ربما كان هذا الوحش مجرد (وحش معنوي) ..

هل تستغرب من وصف (وحش معنوي) ؟؟

إذن دعني أعرفك على الوحش الخاص بي أنا ..

؟

هذا هو الوحش المرعب الخاص بي .. وقد جسدته لك في السطر السابق !!

نعم .. أنه علامة الاستفهام !!

هذا هو وحشي الخاص !!

هذا هو خلاصة مخاوفي المعنوية في الدنيا كلها !! هذه العلامة البسيطة ترمز – ببساطة – إلى كل مجهول في هذه الدنيا ..

أنها تبدو كالسور الفاصل بين المعرفة والجهل ..

فقبلها يكمن المنطق .. وبعدها تبدأ التساؤلات !

قبلها تربض الراحة .. وبعدها تركض الحيرة !

قبلها تحوي جملة من سطر واحد .. وبعدها تولد آلاف اللغات الغامضة ..


أقترب معي قليلاً إلى (الوحش) الخاص بي ..


* * * * *


الآن أنا في صحرائي الفكرية .. تائهاً وحائراً بالإضافة إلى كوني وحيداً فيها !! أنها صحراء من نوع خاص ، صحراء جدباء جرداء وقاسية .. صحراء صغيرة تحيط بها صحراء أكبر ! اللون الأصفر يفترش الأرض من حولي ، ولا لون مميز لسمائها !!

يملأني شعور الرهبة وأنا أركض هنا وهناك بلا هدف ! فهنا لا معنى لكلمة (أنحاء) أو حتى (رحاب) .. فكل مكان حولي يدعي (هنا) .. لا أسماء ولا عناوين !!

الرمال من حولي عبارة عن أفكار متناثرة .. ملايين وملايين من الأفكار تنتظرني في صبر وتؤدة ! بعضها نجحت في تشكيلها بطريقتي الخاصة سواء في حياتي الخاصة أو على مدونتي الشخصية !! أحياناً أبني من تلك الرمال قصوراً فكرية متفردة لمجرد المتعة ، ثم سرعان ما أحطمها عند أول شعور بالملل !!

من هنا .. ولأول مرة يظهر الوحش الغامض .. يقف في خيلاء وسط صحرائي ..

أذهب إليه خائفاً محاولاً استكشافه ..

أنه ضعف حجمي تقريباً ! وكلما اقتربت منه كلما ذاد حجمه ونما إلى عنان السماء !

ما هذا الوحش الغريب والمخيف !!

أطوف من حوله منبهر الأنفس ! لعلي أفلح في كبح جماحه اللامتناهي هذا !!

أطوف .. وأطوف في قهر .. أحياناً أسعى حوله وتسبقني دموعي .. وغالباً ما يحركني جنوني وطيشي !

« ما هي كينونتك أيها الوحش ! أما لك من نهاية لعليائك !! »

عبارة أتمتم بها في قنوط عندما يتملكني التعب والسأم !

أرددها في غضب هادر لكنه مستكين وبائس !


وأخيراً ..

أقترب منه في بأس عازماً على إنهاء أمره معي ، أو إنهاء أمري أنا معه !

أتسلقه في وهن ممضي ..

وأصل إلى حافته الزلقة في فرح .. متخذاً وقفة صامدة وأطلق صيحات النصر الغرير !

وعندما يشتد علي التعب .. فأني أهبط قليلاً إلى وسطه المنحني ..

أنظر نظرة أخيرة إلى السماء في نشوة عابرة ..

ثم أنام متكوراً متخذً وضعاً جنينياً وأنام في أحضان وحشي العزيز !


ذلك الوحش الذي جاءني مختفياً في علامة عادية ..

علامة (تعجب) أصابها الالتواء في نصفها الأعلى ! فتحورت ووصلت إلي بشكل علامة استفهام!

أنه وحش لا يمكن هزيمته طالما دارت العقول ..

أنه وحش جدير بإطاحة أي عقل حاول التمادي أكثر من اللازم منه !

أنه وحش يأتي إليك في لهفة جذلة طالما أنك نطقت بالكلمة السحرية والسرية لاستدعائه :

« لماذا ؟ » .


* * * * *


« القمع » ..

هذا ما تربينا عليه في طفولتنا العربية ..

قمع فكري من جميع النواحي الحياتية !

منها مثلاً القمع الديني !

فأحياناً قد تراودنا تصورات وتخيلات في مسائل الدين .. وبحكم كوننا أطفال ، فأنا لا نضع حداً معيناً لتفكيرنا .. أنه تفكير مطلق في أبسط صوره !! من حقنا أن نتخيل أي شيء .. وأياً كان !!

لكننا نصطدم أحياناً بتعنت الكبار وانغلاقهم .. فيتم إخراس هذه الأفكار في أدمغتنا الصغيرة توطئة لذبحها بلا شفقة .. أو حتى دفنها وهي حية في رؤوسنا ..

ومع الوقت تموت هذه التخيلات تماماً .. ويتم التمهيد لعقلية الطفل كي يتحول ويتحور وينضم إلى عقلية الكبار .. ويصبح واحداً منهم يشابههم في نفس العقلية وطريقة التفكير .. دون أن يكون له الحق في التفكر أو التدبر ..


بالنسبة إلى أنا .. تحول (الدين) إلى ديكتاتور مجرد وقاسي لا يقبل المناقشة إطلاقاً ..

ديكتاتور اختلطت فيه خزعبلات سخيفة وتعاليم هوجاء مع سماحته وسموه ! فكان الناتج طلاسم غير مقبولة إطلاقاً إلي ..

وكلما سألت :

« لماذا ؟ »

أو

« كيف؟ » .

كانت الإجابة المعهودة من الكبار :

« لا تسأل .. ولا تتساءل .. فقط أمتثل لما نقوله لك وما نمليه عليك » .

لحظتها كان الوحش (؟) يتمثل إلى من العدم ، وينظر إلي في سخرية واضحة وشامتة في نفس الوقت !


ثم بدأ القمع ينمو وينمو ..

حتى أحتل مجالات شتى في حياتي ..

العادات والتقاليد ، السياسة ، حرية التعبير ، الحرية الشخصية ..

وكلما كبرت في السن ، كلما كان علي أن أقدم قرباناً من حريتي تحت مذبح (القمع) ..

ودون أن أتسائل !


ومع الوقت .. بدأ وحشاً أخر يولد بداخلي !! وحشاً خلقه أفكاري ، وحرصت أن يكون ذلك الوحش مروضاً لإرادتي أنا !

وحشاً مستأنساً أعددته خصيصاً لمحاربة وحش أخر لا يرحم !

أنه :

(الغضب) .

عندها أعود مرة أخرى إلى صحرائي .. وأدق طبول الحرب أمام عدوي !

استعين بالغضب من أجل هزيمة المجهول القابع في وسط كياني الفكري !

الغضب !

عملاق أخر جدير بتحرير أفكاري الخاصة من تحت فلول ذلك الوحش القاسي !

معارك وصولات عنيفة تدور من أجل تحرير إجابات أسرت – قسراً – وراء هذا العدو !

أنا وحدي ..

والغضب حليفي ..

أمام العدو المجهول !

فمن سينتصر يا ترى ؟؟؟

10‏/9‏/2008

نصب من نوع أخر !


يُحبّذ إلي أثناء جلوسي في المترو بأن أمارس هوايتي المفضلة في هدوء !!

وهي هواية أمارسها – دائما – عند شعوري بالملل أو بالفراغ أو حتى بالاكتئاب !

ألا وهي:

(الشرود)

أنه يأخذني بين طياته إلى عالم خاص بي أنا فقط ، عالم خيالي جامح ولا حدود له .. عالم ينتظر أوامري أنا لكي ينشأ من العدم .. ثم يبقى متحفزاًَ في انتظار إشارتي لكي ينتحر في لحظات بعدما أنتهي أنا من شرودي هذا !!


كثيراً ما أوقعني هذا الشرود في مشاكل جمّة لا حصر لها .. أهمها أني أحياناً أشرد وتتجمد عيناي في اللامكان المرئي !!

فمن الجائز أن تتسمر عيناي على عين رجل يجلس أمامي وهو في استسلام متراخي !

أو قد تستقر عيناي دون قصد مني على صدر ناهد لفتاة جميلة !!

ولكم أن تتخيلوا كمّ النظرات التي تتماطر علي ظلماً عقاباً على تطفلي هذا الغير مقصود .. ومعهم حق في هذا !

بناءاً عليه عودت نفسي أن أشرد إما في سقف عربة المترو ، أو على أرضيته !!

أيضاً أحرص على عدم فتح أي حوارات مع جيراني في المترو .. فهم جيران مؤقتين ولن يجدي معي أي حوار يطرح في لحظات قليلة بغرض قتل الوقت أو تقليل الشعور بالمسافات بين المحطات !! هذا طبعي أنا .. وأنا أفخر به !!

حتى حدث ما حدث في أخر مرة ركبت فيها المترو !!


* * * * *


كالعادة أنا في المترو ..

أمارس شرودي الهادئ بنظرات شاخصة إلى أرضية المترو .. الأفكار تجري في سلاسة داخل مخي ولا تتأثر إطلاقاً باهتزازات المترو الأرعن والمتهرئ المفاصل كذلك ..

وإذا بي أعود إلى الواقع – إجبارياً – عن طريق شيء ما مجهول يلقى في صرامة على (حجري) .. فنظرت إلى هذا الشيء لأجده عبارة عن قطعة حلوى (بونبون نعناع بالتحديد!) .. فالتقطه من على حجري وأنا أرفع عيني في بطء وغضب صامت وأبحث عن مرتكب هذه الفعلة الشنيعة في حقي ..

من الحقير الذي جرؤ على مقاطعة وقتي الخاص بهذه الطريقة ؟؟

وتوجهت عيني إلى هذه السيدة التي ترتدي الشيء السخيف المسمى (نقاب) !! وكانت تنتقل بآلية جامدة من راكب إلى راكب أخر وتقذفهم بقنابلها (البونبونية) في قذف عشوائي غشيم ! إلى أن انتهت من أخر راكب .. ثم عادت بدورة عكسية لتجمع مرة أخرى ما ألقته منذ لحظات قليلة !

بعض الركاب تكرموا عليها بالمال على سبيل (الحسنة) .. والبعض الأخر أعاد لها ذخيرتها مرة أخرى كما هي ! بلا زيادة أو نقصان .

إلى أن جاء دوري أنا ..

أمسكت أنا قذيفتها الرديئة بأصبعي الإبهام والسبابة .. ونظرت إلى عينها بنظرة قرف عميقة المحتوى وبليغة المضمون .. وعقدت حاجباي إلى أقصى درجة ممكنة !!

لكنها لم تكترث لكل هذا .. وأخذت الحلوى من يدي بلامبالاة .. حتى أنها لم تراعي أن لا تتلامس أصابعي مع أصابعي أنا !!

لاحظت أيضاً أن ثمة طفل ينام في وداعة على كتفها !!

انتهى أمر هذه المرأة معي بعدما غادرت عربة المترو ومعها حصيلتها المشحوذة ..

وعدت مرة أخرى إلى شرودي والذي تركز هذه المرة على شيء واحد فقط :

هذه المرأة !


* * * * *


ما الذي قد يحدث إذا أعطيت هذه المرأة صدقة من باب الشفقة على حالها ؟؟

لا شيء .. فقط سأكون مغفل ساذج وضحية لهذه النصابة !

نصابة ؟؟

نعم نصابة ومحتالة كذلك !

فهي (نصابة) لأنها نصبت عدتها المتمثلة في (التسول) .. واستعانت بطفلها المسكين الذي لا ذنب له سوى أن هذه النصابة هي أمه ..

و (محتالة) لأنها تحايلت على مشاعر الناس واحتالت على ضمائرهم باسم (الصدقة) !


أيضاً هذه الوغدة تسلحت بمنتج تافه ورخيص لا يضر ولا ينفع ، أنه مجرد حلوى لا طعم لها ولا تغني من جوع .. منتج يباع في الأكشاك بمبلغ وقدره (خمسة قروش) لا غير ..

إذن هي تعتمد على تعاطف السذج والبلهاء منا !!

المصيبة الكبرى أن هذه النصابة القذرة لازالت شابة في مقتبل العمر .. عرفت هذا وقدرته عندما نظرت في عينيها من وراء النقاب!! أنهما عينان لأنثى شابة ولا جدال في هذا !!

هذه القذرة فضلت اللعب على أوتار عواطف البلهاء من مرتادي المترو بدلاً من أن تبحث لنفسها على وظيفة شريفة !!

أي وظيفة جديرة بأن تمحي منها عار التسول والنصب !!

أي وظيفة لا تستحق هذا المجهود الجبار الذي تبذله طوال اليوم في التنقل بين عربات المترو !

أي وظيفة والسلام !


أكثر ما أثار حنقي هو الطفل النائم على كتفها بكل وداعة ..

طفل مثله مثل أي طفل رضيع في سنه ..

طفل ذو قلب وعقل في نصاعة لون خلفية هذه المدونة !!


إلى أن ..

إلى أن يكبر ويترعرع في عالمنا !

فهذه القذرة ستهدي إلى مجتمعنا متسولاً جديداً أو مجرم أخر يعيش في بلدنا!

هذا الكيان النائم سيصحو يوما مكشراً عن أنيابه في شراسة ليبدأ انتقامه ضد المجتمع !

ولا أتوقع أبداً أن تخصص أمه وقتاً ما لتربية هذا الطفل الصغير .. بل ستتركه للظروف الصعبة المحيطة به لكي تقوم بتشكيل أخلاقه وسلوكه !


لحظتها فقط تمنيت أن أعطي هذه المرأة صدقة من نوع خاص !!

تمنيت أن أعطيها (واقي ذكري) !!

نعم .. واقي ذكري من النوع الجيد والمتماسك !!

فيمكنها – بهذه الطريقة – يمكنها ممارسة النصب نهاراً مع المغفلين والبلهاء ..

أما في الليل .. فيمكنها ممارسة الحب مع زوجها – أو أياً كان – دون أن يكون هناك توابع جنينية أو نواتج بشرية من هذا اللقاء !!

بسبب هذا الواقي:

  • لن نتحمل عبء يضاف إلى كاهلنا وعلينا أن نتحمله في صمت كأن لنا ذنب في ذلك الأمر !!
  • لن أجد طفلاً متسخ الثياب ينام على أحد الأرصفة بعمق شديد !! ليس حباً في الرصيف أو الهواء الطلق ، إنما لأنه ليس لديه أي مكان أخر يأويه غير الرصيف !!
  • سأكف عن محاولة صم آذني عند سماع بكاء أحدهم وهو يبكي بحرقة وذعر في الشارع !! وربما استطعت عدم سماع بكاءه !! لكن هل توقف بكاءه بالفعل ؟؟
  • لن أشعر بالذنب إذا ما أصابني الجوع فجأة وأنا في الشارع .. فأدخل يدي إلى جيبي العامر بالمال .. ثم أدخل بقدمي إلى أي مطعم .. وانتهت المشكلة بالنسبة إلي أنا .. لكن ماذا عنهم هم ؟؟ وماذا عن عيونهم الجائعة قبل بطونهم ؟؟
  • لن أضطر أن أخفي ضيقي عندما يتعرض إلي أحد هؤلاء الأطفال ويطلب مني بحرقة وسماجة أي شيء لله .. بالمناسبة : معظمهم يفعلونها من باب المضايقة أحياناً !!


هذه المرأة (المستهبلة) ليست إلا نموذج لتطور أيديولوجية التسول في القرن الحادي والعشرون !

بالطبع أنا لا أصب جام غضبي على شخصها أو حتى ظروفها .. بل أحنقني للغاية أسلوبها في النصب .. فإذا أرادت أن تستخف بعقلي وعواطفي ، فلتبتكر وسيلة أكثر ذكاءاً من مجرد (بونبون من أبو شلن يسقط على حجري)!!


* * * * *


لازلت في نفس المترو ..

بالتحديد بعد محطتين من وقت حدوث الوقعة السابقة !!

نفس المشهد يتكرر بحذافيره ..

إلا أن هذه المرة لم يتواجد الطفل أو البونبون !!

بل قامت امرأة أخرى ملثمة بتوزيع وريقات صغيرة على كل راكب يجلس على مقعد (ولم أدري الحكمة في عدم توزيع الورق على الواقفين) !!

قرأت الورقة بعناية .. وكان محتواها يقول باختصار :

زوجي في الإنعاش ويحتاج القيام بعملية (بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا)
.. ساعدوني يا أصحاب القلوب الرحيمة (بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا) !

المثير للدهشة أن الورقة مكتوبة بالكمبيوتر .. وتم استنساخ عدة صور منها باستخدام ماكينة تصوير !! أي نصب ولامؤاخذة (ديجتال) !!

الأكثر غرابة أني صادفت هذا الموقف بعينه عدة مرات متباعدة.. وبسبب نقاب المرأة لم أعرف إن كانت هي التي أصادفها كل مرة ؟؟ أم هي مجرد زميلة أخرى تشاركها في نفس (السبّوبة) ؟؟

وما كان مني إلا أن قمت بنفس رد الفعل السابق مع النصابة الأخرى .. ولا أدري إن كان ينفعها (الواقي الذكري) في حالتها أم لا (باعتبار إن زوجها في الإنعاش إن كانت من الصادقين) !!


هناك شخص أعرفه جيداً قال يوماً :

وما المترو إلا مسرح كبير* !

فيا لعجب ما يحدث داخل كتلة الصفيح هذا !!


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أنا .

* * * * *


تتركز سيكولوجية التسول على فاعلية (البيع والشراء) ..

فالمتسول غالباً ما يكون مصاب بعاهة أو تشوه بشع (أعور ، أجدع ، كساح ، بتر ، عيب خلقي) .. ويعرض كل متسول ما أتيح له من عاهة أمامك (على عينك يا تاجر) .. وبمفهوم أخر أنه يبيع لك عاهته ويجعلك تقارن نفسك به لا إرادياً .. ثم تكتشف فجأة أنك تمتلك بداخلك (بضاعة) عالية المستوى ، ويعطيك شعوراً لحظياً بتمام عافيتك وصحتك ، وأنك أفضل من غيرك .. ثم تمتد يدك إلى محفظتك وتخرج منها ما استطعت من نقود وأنت في غاية التأثر .. وكلما زادت فداحة العاهة .. كلما زادت قيمة الحسنة أو الصدقة !!

هؤلاء القوم لن أتكلم عنهم بقسوة .. فهم – غالباً – لا ذنب فيما أصابهم !! إلا أنهم أحياناً يبالغون في عرض بضاعتهم بطريقة تثير الاشمئزاز لضعاف القلوب!!


* * * * *


بعض المتسولين حددوا (تسعيرة) موحدة ومعينة لقيمة الحسنة ! فإذا قدمت لهم صدقة أقل من هذه التسعيرة ، فلا بأس من سماع لعنات وسباب واتهامات لك بالبخل والشح والسحت والتقطير وأنك مجرد (أفندي جلدة) !

أما إذا نالت حسنتك رضاهم ، لك أن تعطر أذنيك بعميق الدعاوي لك والتي لن يخرج مضمونها عن : ربنا يعمر بيتك .. ربنا ينجح لك أولادك .. ألهي يبعد عنك ولاد الحرام .. ربنا يستر طريقك ..

وإذا لم تتواجد في أصبعك دبلة فضية أو ذهبية فيمكنني أن أضيف الدعوة المأثورة : ربنا يرزقك بــ (أبن / بنت) الحلال يا رب !


والمعروف عن المصريين بأنهم شعب طيب القلب .. ومعظمه يدفع للمتسولين باستمرار وسخاء ..

والطريف أن عدد المتسولين لا يقل أبداً .. بل يزداد باضطراد كل يوم !!

ولم نصادف متسول يوماً قرر اعتزال المهنة لأنه وصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي ..

ولا يوجد للمتسول سن معين للإحالة إلى المعاش .. بل هو متسول حتى النهاية .. وبنفس الاستماتة المألوفة !


التسول بأي شكل من الأشكال هو شيء مقزز ..

وأتمنى أن تصل ثقافتنا يوماً وترتقي لنعرف الفرق بين :

المتسول ، الفقير ، المسكين ، النصاب ، المحتاج !

بالمناسبة : الفرق كبير بين كل ما سبق!


وأكثر شخص يستحق صدقتك هو الشخص الذي تعف عليه نفسه لمد يده وسؤال الناس !


لذلك :

فكر جيداً قبل أن تدخل يدك في جيبك ..

ثم فكر وأنت تخرج يدك من جيبك :

هل يستحق (المتسول النصاب / المتسولة النصابة) نقودك ؟؟

أم يستحق (اللي بالي بالك) ؟؟

17‏/8‏/2008

أكثر من مجرد كائن !

الإنسان !!

حتى الآن هو أكثر الكائنات رقياً على سطح الكرة الأرضية ، والمقصود بالرقي هنا : هو ارتقاء تكوينه البدني والجسدي والعقلي عن باقي الكائنات الأخرى التي تعيش معه في نفس الكوكب !

أيضاً الإنسان هو الكائن الوحيد الذي عرف كيف يتكيف مع ظروف البيئة المحيطة به ، فتجده يعيش في الصقيع القارص ، والحر القائظ .. وفي الغابات المنبتة ، وفي الصحاري الجرداء بلا أي مشاكل بيولوجية تذكر .. لقد نجح في ذكاء أن يذلل الصعاب الموجودة في ثنايا الطبيعة وتفوق على إرادتها .. عكس الكائنات الأخرى .. فالدب القطبي مثلاً لا يتحمل أن يتكيف في أي صحراء استوائية مثلاً .. أيضاً نبات الصبار لا يتحمل العيش في مكان يتواجد به الماء بكثرة !

وطبقاً لعادات الإنسان الغذائية .. سنجد أنه أيضاً الكائن الوحيد صاحب أكبر وأشمل سلسلة غذائية معروفة حتى الآن ! فهو يأكل النبات والحيوانات التي تعيش في البر ، والأسماك البحرية ، وأيضاً الطيور !

وأيضاً يعتبر الإنسان من أكثر الكائنات رفاهية بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية ! وهذه الرفاهية وفرت له بدائل وترف غير موجودة عند باقي الكائنات الأخرى .. ولنأخذ القرد مثالاً على ذلك ، فهو أقرب الكائنات شبهاً للتشريح الإنساني ، وأيضاً تالي كائن يضاهي الإنسان في ذكاءه ! إلا أنه حتى الآن لم نجد قرداً أبتكر وسيلة مرتجلة للطيران في السماء ، أو حتى الغوص في البحار العميقة مثلما فعل الإنسان وسبقه هو وباقي الكائنات الأخرى ! ومهما بلغ درجة خيال الإنسان فأنه لن يتوقع أبداً خروج سمكة من البحر مثلاً وعلى خياشيمها أجهزة تؤهلها للتنفس خارج البحر وأيضاً أجهزة تمكنها من السير على الأرض ! عكس الإنسان الذي أفلح في التوغل لأعمق المحيطات من خلال مساعدة أجهزة وفرت له الهواء الذي يحتاجه للعيش حتى في بطن المحيطات المظلمة الخاوية من أي نسب هواء يمكن استنشاقه برئتيه !! وعندما وصل الإنسان إلى درجة عمق معينة عجز عن اختراقها بهذه الوسيلة بسبب الضغط المائي الهائل ، استخدم عقله مرة أخرى وأخترع وسيلة أخرى هي الغواصات ! ثم استكمل شق غموض البحار مرة أخرى في حماس !

نفس الحال بالنسبة للفضاء ..

كان الحلم هو مجرد التحليق لمسافة بسيطة في السماء مثل أي عصفور صغير تعلم الطيران للتو .. وبالفعل أفلح في اختراع الطائرات !! ثم المركبات الفضائية التي مكنته من الوصول للقمر .. ثم المريخ ! وفي نيته الذهاب أكثر وأبعد !

في نفس الوقت الذي يجلس فيه القرد على الشجرة ويقشر موزة أو يأكلها بقشرتها في هدوء عجيب وعقل خالي من المشاكل أو الطموح .. كما كان يفعل جده القرد الأكبر منذ آلاف السنين .. الوضع لا ولن يتغير ببساطة !


 

الإنسان ..

هو ملك متوج على كوكب الأرض .. وبلا منازع أو منافس يخشاه !

فما هو إذن التاج الذي ميز الإنسان وجعله ملك في التطور الرهيب الذي حدث له عبر السنين ؟؟


 

العقل ؟!

ربما هو العقل بالفعل !

وهذا ما استخدمه الإنسان لدراسة نفسه بطريقة تحليلية تمكنه من معرفه كينونته التشريحية والنفسية الغامضة!

وكلما أفلح في فك غموض نفسه وطلاسمها ، كلما وجد عقبة أخرى تقابله بداخله!

ولعل الإنسان البدائي وقف حائراً أثناء التبول مثلاً !! ربما تساءل عن سر ذلك الماء الأصفر الذي يخرج منه !! مع أنه شرب ماء عديم اللون أو شرب دماء الحيوانات أثناء أكلها وهي نيئة أو حتى شرب عصارات النباتات المختلفة !! كيف تجمع كل ذلك وتوحد إلى لون واحد هو الأصفر الذي لا يتغير في كل مرة خلال مرات عديدة في اليوم الواحد ؟؟

أيضاً برازه .. نفس الشكل الكريه والرائحة الشنيعة في كل مرة!!

ما الذي يحدث بداخله ؟؟

وعودة إلى الرفاهية والتطور العقلي .. عرفنا أن كل ذلك يحدث نتيجة عملية الهضم والإفرازات الحمضية داخل المعدة .. وأيضاً عمليات أخرى يعرفها كل الدارسين والمتخصصين في مجال الطب !

أي أن بداخل كل إنسان منا مصانع جبارة وتعمل بلا كلل منذ أن قطع شخصاً ما الحبل السري الخاص بنا ثم ضربنا على مؤخرتنا الصغيرة لكي نبكي وأيضاً نعلن عن قدومنا إلى الحياة .. من هنا تأهبت كل الوظائف الحيوية للعمل جاهدة لمنح صاحبها الحق في الحياة إلى أن تقرر التوقف وتتوقف معها حياة صاحبها !


 

وربما تساءل جد من أجدادنا القدماء في حيرة :

  • كيف يرى بعينه ؟
  • لماذا لا يسمع بأنفه ؟
  • لماذا لا يتكلم بأصابعه ؟
  • كيف يتكون العرق والمخاط والدموع واللعاب والصماخ وكلها مواد موجودة في رأسه؟ ولماذا لا تختلط أي مادة منهم مع الأخرى ؟
  • لماذا لا تخرج الدموع من الفم ؟ ولماذا يخرج الصماخ كل مرة من الأذن؟
  • كيف ينمو شعره وأظافره ؟
  • كيف يمشي على قدميه في سلاسة وتوازن ؟

وكلها أسئلة بإمكان أي طفل في عصرنا الحالي الإجابة عليها دون أدنى مشقة ذهنية !


 

وكلما تقدم الإنسان علمياً وبرع في استخدام عقله .. وجد وحدات أصغر بداخله عجز عن التعامل معها أو فهم سرها .. مثل الشفرة الجينية لكل فرد منا .. وكروموسومات تحديد النوع .. والجينات المسئولة عن تصرفات الشخص أو حتى الحالات المزاجية أو قدراته العقلية !

وكلما استخدم الإنسان مصباح عقله في إنارة حائط الطلاسم الموجودة بداخله .. وجد كهف عميق ومظلم أخر قابع بداخله كله مجاهل وغموض ..

لعل هناك مقولة استراح لها الإنسان في وصف نفسه تقول :

ما الإنسان إلا شرايين وعضلات وإشارات كهربائية وتفاعلات كيميائية وعظام كلها معبأة بقرطاس جلد .. أنه السر الأعظم .. واسمه الإنسان !


 

* * * * *

ولكن ..

أين هو العقل عندما يمارس إنسان عملاً ينافي طبيعته وغرائزه ؟!

معروف أن لدى الإنسان غرائز عديدة يحرص عليها في حياته .. ومنها على الترتيب :

  • غريزة البقاء .
  • غريزة الشبع .
  • غريزة الجنس .

وأول ما يحرص عليه الإنسان في وجوده هو الحفاظ على حياته .. حتى بدون أي تدخل منه !

وإذا خيرت الإنسان في القضاء على حياته .. أو حرمانه من الأكل على فترات ! سيختار حتماً الاختيار الثاني .. فالمهم عنده أولاً هو حياته .. لذلك يشعر الإنسان بخوف خفي في معظم الأوقات على حياته ..

جرب أن تلسع شخص بالنار أو ألكزه بدبوس مثلاً .. ستجده انتفض لا إرادياً وأصابه الهلع !! أنه الحرص على حياته والخوف من أي مخاطر تؤذي وجوده أو تهدد حياته !

غريزة البقاء ..

أهم عنده من حتى الجنس والذي يعرف بأنه أعظم متعة حسية معروفة للإنسان حتى الآن !


 

إلا أن ..

حتى الآن لا يعٌرف السبب في ابتكار الإنسان في وسيلة للقضاء على نفسه بوسائل غريبة تعرف باسم الحروب أو القتل ؟؟

لقد برع الإنسان في اكتشاف وسائل عديدة ومبتكرة للقضاء على نفسه وغيره أيضاً !!

بدءاً من استخدام الحجارة والنار لقتل غيره .. ثم الحراب الخشبية المسننة .. وبعدها السيوف والأسهم .. وانتهاءاً بالأسلحة النارية ..

الآن بإمكانه بمجرد ضغطة زر إنهاء حياة إنسان أخر بمنتهى السهولة !!

ووجدت مسميات عديدة تبيح هذا القتل !! منها الحروب مثلاً .. مجموعات من الإنسان تقاتل مجموعات أخرى بكل شراسة وتصميم بالغ على القتل لمجرد اختلاف اللغة أو الجنسية أو العقيدة ..

وليت الأمر يتوقف على القتل .. بل اخترع وسائل تعذيبية شنيعة يستخدمها قبل قتل ضحيته !

هل يخفي الإنسان بداخله غرائز تدميرية يبغي محو نفسه وغيره لمجرد أنه يملك ما ليس عند غيره من الكائنات الأخرى ؟

العقل ؟

بما أني إنسان أيضاً ..

فأني أتساءل من هنا :

أين العقل أيها الإنسان ؟؟

أين أخفيت تاجك يا ملك الكائنات الأعظم ؟؟

هل ضاع منك ؟؟

أم سرقه منك غرورك وأطماعك والحرص على ملذاتك ؟


 

* * * * *


 

هل الإنسان واحد ؟؟

أعني هل يملك الإنسان طباعاً واحدة وموحدة موجودة ومنتشرة في كل فرد فينا ؟؟

الإجابة هي : بالطبع لا !

الإنسان ليس كائن صلب وجامد مثل الآلات التي اخترعها .. أو حتى كالحيوانات والنباتات التي تحيط به !


 

الإنسان لا يملك Software حازمة بداخله تقول له ما يجب فعله ، وما لا يليق أن يفعله ! فهو حر تماماً في اختياراته وأفعاله !

وكل إنسان هو وحدة تامة خاصة بذاته في الأفعال والتصرفات .. ويتأثر الإنسان بطريقة قوية بالبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه !

فالإنسان في المجتمعات الصحراوية مثلاً يكون قاسي وجامد القلب والطباع ، مع لمحة من الشراسة والهمجية الملحوظة !

ومن يعيش في الثلوج والأجواء الباردة ، ستجده ذو ميول باردة ولا مبالية وتنازلات أخلاقية واضحة !

ونفس الحال بالنسبة للبلدان المتقاربة .. ستجد فيها اختلاف واضح في سلوك الإنسان وتصرفاته ! حتى في أقسام البلد الواحد ستجد اختلاف في العادات والتصرفات ..

كل القيم والعادات تختلف حسب موقع الإنسان على سطح الكرة الأرضية !

الثقافات المتعددة والمناخ العام الذي يحيطان بالإنسان هما من يحددان تصرفاته وتعامله في الحياة ..

ولو افترضنا بأن بلدان العالم إجماليها ثلاثمائة دولة .. وكان بإمكانك بأن تجمع رجل وامرأة من كل بلد .. ثم طرحت عليهم سؤالاً واحداً .. أياً كان نوعه .. ثق بأنك ستجد لديك ستمائة إجابة مختلفة ومتباعدة من كل فرد فيهم !!

الإنسان واحد في الهيئة العامة الخارجية ، لكنه مختلف تماماً من الداخل .. نفسياً واجتماعياً وعقلياً !

شيء غريب فعلاً .. ولكنه نحن بأي حال !


 

* * * * *


 

هل – بعد كل هذا – يشعر الإنسان بأنه ضعيف ؟

نعم يشعر الإنسان بأنه ضعيف !

لذلك شعر الإنسان بحاجته لمن هو أكبر منه !

الإله ..

فمنذ القدم شعر الإنسان بالاحتياج للإله كي يتضرع له ويغفر له حماقاته التي لا نهاية لها !

فحاول تجسيد الإله أمامه عن طريق الأصنام أو التعاويذ أو الطوطم وجعلها مرئية ومحيطة به لكي تراقب تصرفاته .. وأيضاً كي يتذلل لها كي تنعم عليه بالمأوى والغذاء والأمطار ! وألتف حول هذه المعبودات وقدم لها القرابين لكي ترضى عنه .. في بعض الحضارات القديمة كالأزتك والمايا كانت تقدم قرابين بشرية بغرض التقرب للآلهة !! وهو عمل أحمق وفي غاية القسوة ، لكنهم اقتنعوا به لاعتقادهم بأن الصنم سيجزيهم عنه بمنتهى الكرم الإلهي الذي لا ينضب!!

وجاءت الأديان السماوية الثلاثة التي تدعو بوحدانية الله ..

اليهودية – المسيحية – الإسلام ..

وإن اختلفت نوعاً ما في مضمونها !

ثم انبثقت الأديان الثلاثة إلى عديد من المذاهب الفرعية !

وجاءت أديان روحانية أخرى كالبوذية والزرادشتية والكونفوشيوسية والتاوية .. الخ !


 

الغريب بأن بالأديان وحدت جمع قليل من الناس وليس كلهم ! كما أنها السبب الرئيسي في انتشار الكراهية بين المجتمعات الإنسانية العديدة ! أي أن الأديان قد نجحت في لم شمل بعض الطوائف ، وأيضاً زرع الخلافات بين الطوائف الأخرى .. وقربت جموع قليلة من الناس في عقيدة واحدة ، وأبعدت إجبارياً باقي الناس من أتباع الديانات الأخرى !

أي أنها جمعت فئات قليلة .. وفرقت فئات أكثر !


 

* * * * *


 

ما هو أكثر شيء يؤمن الإنسان بوجوده أثناء حياته ؟


 

من الغرائب الموجود عند الإنسان أن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه هذا الجنس العجيب مهما كانت عقيدته أو جنسيته أو لغته أو ثقافته هو :

الموت!

إلى الآن لم يوجد شخص عاقل بإمكانه إنكار حقيقة الموت !!

ولعلها من السخرية أن تكون الحقيقة الوحيدة المتفق عليها في حياة الإنسان هي موته!

وقد يتجادل الإنسان في أي شيء ، إلا الموت !

وطبقاً لغريزة الإنسان الأولى والرئيسية ، فإن أكثر ما يخافه ويخشاه هو الموت !

لذلك فهو يقدسه ويرهبه في نفس الوقت ..

وهناك مراسم عديدة عند الشعوب تقام عند موت شخص ما ، وتختلف طريقة الدفن حسب ثقافة الشعوب وعقائدها ..

  • فهناك من يفضل دفن الميت في التراب !
  • وهناك من يحرق الميت !
  • وهناك قبائل تأكل جسد الميت كنوع من تكريمه واعتقادهم بأنهم – بهذه الطريقة – يعيش بداخلهم بعد موته !!
  • وهناك من يقطع جسد الميت وإطعامه للطيور آكلة الجيفة فيما يسمى (مراسم الدفن السماوي) .. فهم يعتقدون بأنهم دفنوا الميت في السماء بهذه الطريقة !
  • وهناك من زين وحنط جسد الميت وألبسه ثياباً فاخرة استعداداً لعودته مرة أخرى للحياة (الفراعنة) !
  • وهناك من يقطع أوصال الميت ويشوه جسده كنوع من الانتقام القذر والمشين إذا كان الميت من الأعداء مثلاً !


 

ومهما بلغت درجة تطور الإنسان في شتى العلوم ، فأنه – حتماً – سيقف عاجزاً وخائفاً أمام وحشاً مرعباً سيلتقي به مثلما التقى بمليارات من أجداده من قبل .. ولن توجد وسيلة معينة لإلغاء هذا اللقاء المرتقب ..

أنه وحش لا يعرف التفاهم أو التفاوض أو حتى الهذر ..

أنه وحش يسمى :

الموت !


 

* * * * *


 

إذا قرأت هذا الموضوع كاملاً ..

حاول استخدام التاج الذي ميزك عن غيرك من باقي الكائنات الأخرى ..

وأذهب بعيداً ..

بعيداً جداً ..

إلى غابة ما .. أي غابة تتجسد في مخيلتك ..

توجه إلى أي شجرة موز !!

هل ترى ذلك القرد الذي يجلس تحتها وفي يده موزة يستعد لأكلها ؟؟!

هل أصابك الفضول لتعرف فيما يفكر كتلة الشعر هذه ؟؟!

هل هو بالغباء والتفاهة التي تتخيلها ؟؟

هل تحيرك نظرات عينيه البليدة ؟!

هل حاولت تأمله ودراسة سلوكه التفكيري والاجتماعي والنفسي ؟


 

هل سئمت من وقفتك أمامه ومللت مراقبته ؟

حسناً ..

أعط له ظهرك وأرحل من أمامه في عدم اهتمام !!


 

ولكن ..

ولكنك لن ترى هذا القرد وهو يلقي بموزته هذه .. ويراقب ظهرك وأنت ترحل عنه في قنوط !

هل ترى نظرات الاهتمام في عينه وهو يتأملك ؟؟

هل تفهم ابتسامة السخرية المرتسمة على وجهه ؟

هل تعرف معنى انعقاد حاجبيه ؟؟ أنها تشبهنا نحن عندما نفكر !!


 

ما الذي يحدث من ورائك وأنت لا تلاحظه يا ترى ؟؟


 

هل تعرف أنت ؟؟

2‏/8‏/2008

هام وعاجل إلى السيد وزير الداخلية !


فخامة السيد معالي وزير الداخلية .

تحية طيبة وبعد ؛


مقدمه لسيادتكم العميد / سامي مجدي ، أبنك البار يا سيدي ..

والذي ستثبت تحريات سعادتكم الدءوبة عني كفاءتي الفائقة في العمل الشرطي طوال ثلاثون عاماً قضيتها في خدمة الوطن والنظام معاً بلا كلل .

سيدي معالي الوزير ، أريد في هذا الخطاب أن ألفت نظركم لظاهرة غريبة ومقلقة بعض الشيء عن وطننا الحبيب (مصر) ..

لذلك .. أتمنى أن تسمح معاليك لي بنقل ما حدث لي بالأمس بأمانة تامة من جانبي ، وسأترك لمعاليك – شاكراً – البت في هذا الأمر المريب .


* * * * *


بالأمس .. وفي الصباح الباكر ، تركت منزلي بعد مشاجرة حادة وجادة نوعاً ما زوجتي في البيت .. بالطبع هذه أسرار لا تخفى على معاليك !

لكن .. هذا اليوم بالذات فاقت المشاجرة الحد المسموح به مع زوجتي ، وترتب على ذلك خروجي من بيتي وأنا في أسوأ حالاتي المزاجية طراً ..

لكني لم أهتم ، وصممت على مواصلة أدائي لمهمتي تجاه الوطن .. مهماً بلغت ظروفي الشخصية !

لذا بمجرد خروجي من باب شقتي ، مددت يدي في جيبي وأخرجت نظارتي الشمسية (Ray ban) الشهيرة ذات اللون البني الغامق ووضعتها على وجهي في حماس ! طوال خدمتي في الشرطة وأنا أعلم قيمة هذه النظارة الشمسية الداكنة ، ليس القيمة المادية بالطبع ! لكنها القيمة النفسية .. الرهبة يا سيدي ! هذه النظارات – السحرية – تبدو على وجوهنا كأنها أعين كبيرة مفتوحة للأبد وتراقب بلا كلل كل من حولي في شك وريبة دائمة ، كما أنها تمنحنا الفرصة في ثبر أغوار وخفايا المواطنين دون أن يعرفوا أين تتوجه نظراتنا أو حتى من أي زاوية ننظر لهم ! أحياناً تساعد الشوارب الغليظة و (الكروش) البارزة في زيادة وقع هذا التأثير على الناس قاطبة !

لذلك تأكدت من صرامة ملامحي في مرآة المصعد ، وتيقنت من أن النظارة تخفي نصف وجهي كالمعتاد .. و(نفشّت) شاربي كعادتي كل صباح ..

ربما رتبت على (كرشي) في رضا وفخر لحظتها ، لكني لست متأكد من ذلك الآن !

عندما خرجت من المصعد ، تهجمت ملامح وجهي لا إرادياً – كالعادة – تحسباً لقدوم حارس العقار (البواب) مهللاً بلهجته القروية :

  • صباح الخير يا باشا .. أخبار سعادتك أيه ؟؟

أنها الكلمات المعتادة من عامة المواطنين والشعب إلينا نحن ضباط الشرطة ! بالطبع هذه أمور لا تخفى على معاليك باعتبارك ضابط شرطة كفؤ سابقاً .. أعني قبل تكليف سيادتكم بمهام وزير الداخلية !

لا أخفي على معاليك بأني كنت أحتاج لغو وكلمات الإطراء من البواب بشدة ، فقد تعكر مزاجي كثيراً جراء مشاجرتي مع زوجتي !

لحظتها كانت وظيفتي أشبه بجناحين كبيرين مثبتين في كتفي ، وهذا البواب هو الهواء اللازم لطيراني عالياً ، أما مفعول كلماته معي هو (السمو) الذي يصل بي لعنان السماء .. وإن كنت أخفي (سموي) هذا بداخلي ولا أعطي للبواب انطباع بأن كلماته هذه أثرت في بالمرة .. بالعكس ! فأنا أرمقه بنظرة قرف عميقة من وراء نظارتي ، وكثيراً ما تجاهلت رد تحيته .

في هذا الصباح لم أجد البواب وراء باب المصعد .. تجاهلت الأمر وكأن شيئا لم يحدث ، من يدري ؟ لعله ذهب لشراء شيء ما لأحد السكان الأوباش جيراني في العمارة !

عند توجهي لباب المبنى وجدته ..

البواب ..

كان مستلقياً على أريكته الخشبية في خمول ..

أعترف لمعاليك بأن المنظر كان صاعقاً تماماً ..

هل تجاهل – قاصداً – القدوم إلى باب المصعد كعادته كل صباح ؟؟

المهم ..

عندما مررت بجانبه ، لم يغير وضعه بالمرة !! بل أقسم لمعاليك بأنه نظر مباشرة إلي عيني وهي خلف النظارة في برود ، وابتسم ابتسامة ساخرة سريعة ، ثم أغمض عينه في تراخي مملوء بالنعاس المزيف ..

هكذا يا معالي الوزير !

هكذا حدث أول موقف معي بالأمس ..

وهكذا بدأ الأمر !!


* * * * *


أثناء ركوبي سيارة (البوكس) متوجهاً إلى القسم ، أمرت السائق بأن يأخذ طريق (الكورنيش) كنوع من التغيير ، لعل رؤيتي للنيل تغير قليلاً من مزاجي السيئ هذا .. كما أنها فرصة لا بأس بها لضبط بعض المواطنين الأوغاد أثناء ارتكابهم لبعض الأفعال الفاضحة على ضفاف النيل .. أنه نوع ما من أنواع (الاستفتاح) الهين ، فأنا أرغب في بداية هذه اليوم – بالذات – ببعض المحاضر الخفيفة نوعاً ما .

كان الطريق مزدحماً بعض الشيء وتوقفنا كثيراً في الإشارات !

لحظتها اكتشفت ثاني أغرب شيء في هذا اليوم :

كل قائدي السيارات كانوا يرمقونني بنظرة غريبة وطويلة !

نعم معاليك .. كانت نظراتهم عميقة جداً لدرجة أنها اخترقت سواد نظاراتي واجتاحت سواد عيني نفسه وتبغي غزوه في شراسة ! أنها نظرات مرعبة ومخيفة للغاية !!

سابقاً وفي مثل هذه الحالة ، كان مجرد التفاتي لأي قائد سيارة كفيلة بإدارة وجهه للناحية الأخرى أو يطأطئ وجهه للأسفل .

لكن الآن كل العيون حولي مركزة إلى عيني أنا ..

ولا أنسى نظرة أحدهم وهو نحيل بالمناسبة ، نظر إلي ملياً .. فقررت صد نظراته بنظراتي الخاصة والتي تدربت عليها طويلاً من قبل ..

إلا أن حدة نظراته كانت تزيد مع الوقت ، وبدأت ابتسامة ساخرة تتوالد على شفتيه في تحد واضح منه !!

ربما هذه أول مرة أنحي فيها وجهي بعيداً هرباً من نظرات شخص آخر !!

أنقذني من هذا الموقف الصعب اخضرار أشارة المرور ومضي هذا الشاب لحاله , لحظتها بدت لي إشارة المرور هذه كأنها شجرة يانعة أتت بثمار طيب .. أنه كرامتي الشخصية يا معالي الوزير !


* * * * *


بدأت التساؤلات تنهش عقلي وصدري بعد الموقف السابق !!

ما الذي يحدث ؟؟

هل هناك عيب في هيبتي اليوم ؟؟

كان لابد لي أن أتأكد من حجم هيبتي .. وبشدة ..

لذلك صرخت في سائق (البوكس) وأنا ألكزه في صدره بعنف :

_ أنت ماشي بالراحة كدة ليه يا حيوان أنت ؟؟ ماتشد حيلك شوية ؟؟

هنا ارتجف السائق كعادته ، وبدا الذعر على وجهه وقال :

_ أمرك يا سامي بك ، بس النهاردة (الكورنيش) زحمة شوية .

لوهلة ابتسمت في رضا ، إذن الهيبة لاتزال موجودة ..

وتنفست الصعداء لحظتها .. إلا أني تذكرت أمراً ما مهم ..

هذا السائق هو عسكري معنا في القسم وليس من المواطنين الأوغاد ، أي هو في نفس حقلي الوظيفي !

أريد التأكد من الأمر مع أحد المواطنين العاديين الأوغاد !!

بناءاً عليه أمرت السائق بالوقوف جانباً ، وترجلت أنا من (البوكس) باحثاً عن من يصلح لتجربة هيبتي عليه !

لم أطل البحث ، فقد وجدته جالساً في شرود على أريكة أمام النيل !

توجهت إليه في ثقة وأنا أرسم ملامح الجدية على وجهي ، واعدل وضع نظارتي الشمسية على وجهي ..

وبداخلي تترد أغنية وليدة في هذه اللحظة العجيبة ..

أغنية تقول :

ها أنا قادم إليك أيها الشاب الأحمق ، سأنهل من كرامتك لكي تزيد هيبتي .. كن فأر مذعوراً لكي أبدو أنا أسداً هصوراً .. كن فريسة سهلة وضحية راضخة حتى أكون أنا أعظم صياد ..


هل تتمتم معاليك بأنها لا تصلح كلمات لأغنية ؟؟


* * * * *


وصلت للشاب ، وربت على ظهره في بطء وقلت :

  • أنت قاعد لوحدك بتحب على روحك يا (حمادة) ؟؟

رفع الشاب نظره إلي في هدوء وقال :

  • أنا أسمي مش (حمادة) !
  • طب (قب) بالبطاقة يا (حلاوة) عشان أعرف أسمك كويس !
  • عايز بطاقتي ؟؟ طب ما تسأل على اسمي لو حضرتك مهتم أوي تعرفه ، بس برضة أسمي مش (حلاوة) !
  • لا يا خفيف .. أنا عايز بطاقتك عشان أنا ظابط .. أطلع بالبطاقة !
  • كارنيهك .
  • نعم يا (روح أمك) ؟؟
  • احترم نفسك يا راجل أنت ، أنت شكلك كبير في السن .. يعني المفروض تتكلم كويس حتى لو كنت ظابط !! بس حضرتك عايز بطاقتي ليه يا ترى ؟؟
  • مزاجي .. شكلك مش عاجبني .. شكلك مشبوه .. أبرز بطاقتك حالاً ..
  • أنا شكلي مشبوه ؟؟ ماشي يا سيدي .. أنت كمان شكلك مشبوه ومش لايق عليك ظابط أبداً .. أبرز الكارنيه بتاعك عشان أتأكد منك الأول .. بعدين أوريك البطاقة بتاعتي !

هنا فقدت سيطرتي على أعصابي تماماً ..

لقد تجمع كل ما مررت به في يومي حتى الآن في يدي ، وهويت بها على خد هذا الوغد في شدة .. لدرجة أن خيط رفيع من الدم بدأ ينسال من الركن الأيسر لشفته !

بالتأكيد سيرضخ الآن ويبكي معتذراً ويطلب مني الصفح على فعلته الشنيعة هذه !!

هذه هي الطريقة الوحيدة لمعاملة المواطنين الغوغاء أمثاله ..

أنها الطريقة المثلى التي تعلمناها في كلية الشرطة للتعامل مع أفراد الشعب العصاه ! أي أنها طريقة عادية ومألوفة لا تخفى على معاليك !

إلا أنه ..

إلا أنه حدث استثناء لهذه القاعدة ..

دعني أعود بك لهذا الشاب وما قد حدث بعدها ..


* * * * *


بعد صفعتي على وجه الشاب النزق .. وقفت أمامه منتظراً إياه لأن يبرز بطاقته !! إلا أنه وقف يرمقني في هدوء ، ويحاول – هو الآخر – أن يخترق زجاج نظارتي !! ثم رفع يده في بطء .. ومرر ظهر يده على شفته الدامية .. ثم نظر في هدوء إلى أثار الدماء عليها .. ووجه إلى نظره مرة أخرى وقال في هدوء لم أتوقعه منه :

  • طلبت منك من قبل أن تحترم نفسك معي .. لكنك تجاوزت حدك !! ربما هو غباء منك .. لكن – من فضلك – لا تلم إلا نفسك !

ودون أن أفلح في فك طلاسم كلماته هذه ، أو حتى أفهم شيئاً مما قاله ..

هوى الشاب على وجهي بلكمة قوية ..

نعم معاليك ..

لقد لكمني ..

لعلك لا تصدق معاليك أمكانية حدوث هذا ..

حتى أنا لم أصدق البتة !

ولم يؤكد لي هذا إلا وقوعي على الأرض ..

وخيط الدم على شفتي ..

الأغرب من ذلك أن هذا المجرم انحنى على وجهي وأنا راقد وقال :

  • ألم تفهم بعد ؟؟ لقد تعرى نسركم من كل ريش يحيط به ..

وبصق على نظارتي واستدار مغادراً المكان في هدوء كأن شيئاً لم يحدث !!

هل كان الجنون ذاته يرفرف بأجنحته فوق رأسي في هذه اللحظة ؟؟


* * * * *


صدقني معاليك ..

لقد أصدرت كافة أوامري العصبية والعضلية لجسدي للحاق بهذا المجرم ، إلا أن هول ما حدث أصابني بشلل لحظي غير عادي ..

هل حدث ما حدث ؟؟

لقد تأثرت كرامتي وهيبتي في تلك اللحظة أكثر مما اتسخت بذلتي (الميري) من تراب أرضية (الكورنيش) القذرة ..

لقد مررت بأصعب ما يمر به ضابط شرطة ، لقد أعطيت صفعة وتلقيت لكمة يا سيدي !!

وصدقني مرة أخرى معاليك ..

مهما وصفت لك .. فلن استطيع وصف ما رأيته من وراء عيني الزجاجية المبصوق عليها ..

لقد ..

لقد رأيت النيل نفسه يسخر من سقطتي هذه ..

أهذا ممكن يا سيدي ؟؟


* * * * *


عندما ذهبت للقسم الذي أعمل به تأكدت تماماً أن الموضوع ليس شخصي بالمرة .. لاحظت هذا في أعين الزملاء الضباط .. كلهم جاءوا بلا نظارات شمسية على الإطلاق !! نظرات أعينهم تملؤها الذهول والهلع .. ربما لم يفصح أحداً منا عما حدث له ، لكنه أمر واضح وجلي في نظراتهم !

حتى تعامل المواطنين الأوغاد اختلف تماماً .. لقد تعاملوا معناً كأننا – مجرد – موظفين حكومة نعمل لخدمتهم ..

هل تتخيل معاليك بأن مواطن حقير عادي كان يمزح مع مأمور القسم قائلاً :

  • مهنة ضابط الشرطة هي أسهل مهنة في بلدنا .. يكفيك مجموع 50% في الثانوية العامة لتدخل كلية الشرطة ! وعند تخرجك منها ستجد وظيفتك جاهزة لاستقبالك ، لن تتعب نفسك في عمل سيرة ذاتية وتقدمها لقسم شرطة معين تعمل به !! المسألة (سبهللة) على الأخر .


وهناك حقير أخر رفض أن يناديني باسم : سامي بك .. بل قال ببساطة : العميد سامي !!

وعندما نبهته لذلك الأمر ، قال في فجاجة وقحة :

  • هل أفهم من ذلك بأنك تنادي بإسقاط الجمهورية وتنادي برجوع الملكية ؟؟

ألجمتني إجابته للغاية ، وسألته في عصبية عن السبب فيما يقوله ، فأجاب :

  • من أهداف ثورة يوليو إلغاء الألقاب .. (باشا ، بك ، أفندي ، خديوي) كلها ألقاب من العهد الملكي البائد .. فهل تنادي أنت برجوع تلك الألقاب وبالتالي رجوع الملكية يا عميد سامي ؟؟


* * * * *


معالي الوزير ..

تقديراً لكفاءتي الوظيفية تردد أنباء عن احتمال ترقيتي إلى رتبة (لواء) قريباً .. وهذا يعكس أشياء عديدة منها سلامة قواي العقلية أولاً !

ولكن ..

هناك شيء ما يحدث ..

هناك ظاهرة ما بدأت في الانتشار مؤخراً ..

أنهم لا يهابونا على الإطلاق ..

فقط يخشانا المسجلين الخطرين والمجرمين الاعتياديين ..

لكن باقي المواطنين لا يخشونا ..

كنت أظن أن الأمر بدأ مع زوجتي (بالمناسبة : هي من بدأت الشجار معي بالأمس ) ..

لكن هناك البواب ..

وقائدي السيارات ..

وكافة فئات المواطنين ..


هناك شيء ما يحدث ..


هناك شيء ما يحدث ..


الرجاء سرعة التدخل للحد من تلك الظاهرة الفظيعة !

وإلا اضطررت أسفاً لتبديد رصاصة من عهدتي وإفراغها في رأسي لكي يتوقف هذا الجنون ، أقله بالنسبة لي أنا .,


فنحن في خطر يا سيدي ..


صدقني يا معالي الوزير .. نحن في خطر .

أنا خايف يا سيدي ..

خائف للغاية ..

ربما وضح ذلك من ارتعاش خطي في هذا الخطاب !

فأنا أرتجف يا سيدي ..

أرجوا أن تلفت معاليك جدياً للتحقيق في أسباب هذا الكابوس ..

أرجوك يا سيدي ..



وتقبلوا بفضول ماحق الاحتراس



مقدمه لمعاليكم :
عميد / سامي مجدي .