17‏/8‏/2008

أكثر من مجرد كائن !

الإنسان !!

حتى الآن هو أكثر الكائنات رقياً على سطح الكرة الأرضية ، والمقصود بالرقي هنا : هو ارتقاء تكوينه البدني والجسدي والعقلي عن باقي الكائنات الأخرى التي تعيش معه في نفس الكوكب !

أيضاً الإنسان هو الكائن الوحيد الذي عرف كيف يتكيف مع ظروف البيئة المحيطة به ، فتجده يعيش في الصقيع القارص ، والحر القائظ .. وفي الغابات المنبتة ، وفي الصحاري الجرداء بلا أي مشاكل بيولوجية تذكر .. لقد نجح في ذكاء أن يذلل الصعاب الموجودة في ثنايا الطبيعة وتفوق على إرادتها .. عكس الكائنات الأخرى .. فالدب القطبي مثلاً لا يتحمل أن يتكيف في أي صحراء استوائية مثلاً .. أيضاً نبات الصبار لا يتحمل العيش في مكان يتواجد به الماء بكثرة !

وطبقاً لعادات الإنسان الغذائية .. سنجد أنه أيضاً الكائن الوحيد صاحب أكبر وأشمل سلسلة غذائية معروفة حتى الآن ! فهو يأكل النبات والحيوانات التي تعيش في البر ، والأسماك البحرية ، وأيضاً الطيور !

وأيضاً يعتبر الإنسان من أكثر الكائنات رفاهية بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية ! وهذه الرفاهية وفرت له بدائل وترف غير موجودة عند باقي الكائنات الأخرى .. ولنأخذ القرد مثالاً على ذلك ، فهو أقرب الكائنات شبهاً للتشريح الإنساني ، وأيضاً تالي كائن يضاهي الإنسان في ذكاءه ! إلا أنه حتى الآن لم نجد قرداً أبتكر وسيلة مرتجلة للطيران في السماء ، أو حتى الغوص في البحار العميقة مثلما فعل الإنسان وسبقه هو وباقي الكائنات الأخرى ! ومهما بلغ درجة خيال الإنسان فأنه لن يتوقع أبداً خروج سمكة من البحر مثلاً وعلى خياشيمها أجهزة تؤهلها للتنفس خارج البحر وأيضاً أجهزة تمكنها من السير على الأرض ! عكس الإنسان الذي أفلح في التوغل لأعمق المحيطات من خلال مساعدة أجهزة وفرت له الهواء الذي يحتاجه للعيش حتى في بطن المحيطات المظلمة الخاوية من أي نسب هواء يمكن استنشاقه برئتيه !! وعندما وصل الإنسان إلى درجة عمق معينة عجز عن اختراقها بهذه الوسيلة بسبب الضغط المائي الهائل ، استخدم عقله مرة أخرى وأخترع وسيلة أخرى هي الغواصات ! ثم استكمل شق غموض البحار مرة أخرى في حماس !

نفس الحال بالنسبة للفضاء ..

كان الحلم هو مجرد التحليق لمسافة بسيطة في السماء مثل أي عصفور صغير تعلم الطيران للتو .. وبالفعل أفلح في اختراع الطائرات !! ثم المركبات الفضائية التي مكنته من الوصول للقمر .. ثم المريخ ! وفي نيته الذهاب أكثر وأبعد !

في نفس الوقت الذي يجلس فيه القرد على الشجرة ويقشر موزة أو يأكلها بقشرتها في هدوء عجيب وعقل خالي من المشاكل أو الطموح .. كما كان يفعل جده القرد الأكبر منذ آلاف السنين .. الوضع لا ولن يتغير ببساطة !


 

الإنسان ..

هو ملك متوج على كوكب الأرض .. وبلا منازع أو منافس يخشاه !

فما هو إذن التاج الذي ميز الإنسان وجعله ملك في التطور الرهيب الذي حدث له عبر السنين ؟؟


 

العقل ؟!

ربما هو العقل بالفعل !

وهذا ما استخدمه الإنسان لدراسة نفسه بطريقة تحليلية تمكنه من معرفه كينونته التشريحية والنفسية الغامضة!

وكلما أفلح في فك غموض نفسه وطلاسمها ، كلما وجد عقبة أخرى تقابله بداخله!

ولعل الإنسان البدائي وقف حائراً أثناء التبول مثلاً !! ربما تساءل عن سر ذلك الماء الأصفر الذي يخرج منه !! مع أنه شرب ماء عديم اللون أو شرب دماء الحيوانات أثناء أكلها وهي نيئة أو حتى شرب عصارات النباتات المختلفة !! كيف تجمع كل ذلك وتوحد إلى لون واحد هو الأصفر الذي لا يتغير في كل مرة خلال مرات عديدة في اليوم الواحد ؟؟

أيضاً برازه .. نفس الشكل الكريه والرائحة الشنيعة في كل مرة!!

ما الذي يحدث بداخله ؟؟

وعودة إلى الرفاهية والتطور العقلي .. عرفنا أن كل ذلك يحدث نتيجة عملية الهضم والإفرازات الحمضية داخل المعدة .. وأيضاً عمليات أخرى يعرفها كل الدارسين والمتخصصين في مجال الطب !

أي أن بداخل كل إنسان منا مصانع جبارة وتعمل بلا كلل منذ أن قطع شخصاً ما الحبل السري الخاص بنا ثم ضربنا على مؤخرتنا الصغيرة لكي نبكي وأيضاً نعلن عن قدومنا إلى الحياة .. من هنا تأهبت كل الوظائف الحيوية للعمل جاهدة لمنح صاحبها الحق في الحياة إلى أن تقرر التوقف وتتوقف معها حياة صاحبها !


 

وربما تساءل جد من أجدادنا القدماء في حيرة :

  • كيف يرى بعينه ؟
  • لماذا لا يسمع بأنفه ؟
  • لماذا لا يتكلم بأصابعه ؟
  • كيف يتكون العرق والمخاط والدموع واللعاب والصماخ وكلها مواد موجودة في رأسه؟ ولماذا لا تختلط أي مادة منهم مع الأخرى ؟
  • لماذا لا تخرج الدموع من الفم ؟ ولماذا يخرج الصماخ كل مرة من الأذن؟
  • كيف ينمو شعره وأظافره ؟
  • كيف يمشي على قدميه في سلاسة وتوازن ؟

وكلها أسئلة بإمكان أي طفل في عصرنا الحالي الإجابة عليها دون أدنى مشقة ذهنية !


 

وكلما تقدم الإنسان علمياً وبرع في استخدام عقله .. وجد وحدات أصغر بداخله عجز عن التعامل معها أو فهم سرها .. مثل الشفرة الجينية لكل فرد منا .. وكروموسومات تحديد النوع .. والجينات المسئولة عن تصرفات الشخص أو حتى الحالات المزاجية أو قدراته العقلية !

وكلما استخدم الإنسان مصباح عقله في إنارة حائط الطلاسم الموجودة بداخله .. وجد كهف عميق ومظلم أخر قابع بداخله كله مجاهل وغموض ..

لعل هناك مقولة استراح لها الإنسان في وصف نفسه تقول :

ما الإنسان إلا شرايين وعضلات وإشارات كهربائية وتفاعلات كيميائية وعظام كلها معبأة بقرطاس جلد .. أنه السر الأعظم .. واسمه الإنسان !


 

* * * * *

ولكن ..

أين هو العقل عندما يمارس إنسان عملاً ينافي طبيعته وغرائزه ؟!

معروف أن لدى الإنسان غرائز عديدة يحرص عليها في حياته .. ومنها على الترتيب :

  • غريزة البقاء .
  • غريزة الشبع .
  • غريزة الجنس .

وأول ما يحرص عليه الإنسان في وجوده هو الحفاظ على حياته .. حتى بدون أي تدخل منه !

وإذا خيرت الإنسان في القضاء على حياته .. أو حرمانه من الأكل على فترات ! سيختار حتماً الاختيار الثاني .. فالمهم عنده أولاً هو حياته .. لذلك يشعر الإنسان بخوف خفي في معظم الأوقات على حياته ..

جرب أن تلسع شخص بالنار أو ألكزه بدبوس مثلاً .. ستجده انتفض لا إرادياً وأصابه الهلع !! أنه الحرص على حياته والخوف من أي مخاطر تؤذي وجوده أو تهدد حياته !

غريزة البقاء ..

أهم عنده من حتى الجنس والذي يعرف بأنه أعظم متعة حسية معروفة للإنسان حتى الآن !


 

إلا أن ..

حتى الآن لا يعٌرف السبب في ابتكار الإنسان في وسيلة للقضاء على نفسه بوسائل غريبة تعرف باسم الحروب أو القتل ؟؟

لقد برع الإنسان في اكتشاف وسائل عديدة ومبتكرة للقضاء على نفسه وغيره أيضاً !!

بدءاً من استخدام الحجارة والنار لقتل غيره .. ثم الحراب الخشبية المسننة .. وبعدها السيوف والأسهم .. وانتهاءاً بالأسلحة النارية ..

الآن بإمكانه بمجرد ضغطة زر إنهاء حياة إنسان أخر بمنتهى السهولة !!

ووجدت مسميات عديدة تبيح هذا القتل !! منها الحروب مثلاً .. مجموعات من الإنسان تقاتل مجموعات أخرى بكل شراسة وتصميم بالغ على القتل لمجرد اختلاف اللغة أو الجنسية أو العقيدة ..

وليت الأمر يتوقف على القتل .. بل اخترع وسائل تعذيبية شنيعة يستخدمها قبل قتل ضحيته !

هل يخفي الإنسان بداخله غرائز تدميرية يبغي محو نفسه وغيره لمجرد أنه يملك ما ليس عند غيره من الكائنات الأخرى ؟

العقل ؟

بما أني إنسان أيضاً ..

فأني أتساءل من هنا :

أين العقل أيها الإنسان ؟؟

أين أخفيت تاجك يا ملك الكائنات الأعظم ؟؟

هل ضاع منك ؟؟

أم سرقه منك غرورك وأطماعك والحرص على ملذاتك ؟


 

* * * * *


 

هل الإنسان واحد ؟؟

أعني هل يملك الإنسان طباعاً واحدة وموحدة موجودة ومنتشرة في كل فرد فينا ؟؟

الإجابة هي : بالطبع لا !

الإنسان ليس كائن صلب وجامد مثل الآلات التي اخترعها .. أو حتى كالحيوانات والنباتات التي تحيط به !


 

الإنسان لا يملك Software حازمة بداخله تقول له ما يجب فعله ، وما لا يليق أن يفعله ! فهو حر تماماً في اختياراته وأفعاله !

وكل إنسان هو وحدة تامة خاصة بذاته في الأفعال والتصرفات .. ويتأثر الإنسان بطريقة قوية بالبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه !

فالإنسان في المجتمعات الصحراوية مثلاً يكون قاسي وجامد القلب والطباع ، مع لمحة من الشراسة والهمجية الملحوظة !

ومن يعيش في الثلوج والأجواء الباردة ، ستجده ذو ميول باردة ولا مبالية وتنازلات أخلاقية واضحة !

ونفس الحال بالنسبة للبلدان المتقاربة .. ستجد فيها اختلاف واضح في سلوك الإنسان وتصرفاته ! حتى في أقسام البلد الواحد ستجد اختلاف في العادات والتصرفات ..

كل القيم والعادات تختلف حسب موقع الإنسان على سطح الكرة الأرضية !

الثقافات المتعددة والمناخ العام الذي يحيطان بالإنسان هما من يحددان تصرفاته وتعامله في الحياة ..

ولو افترضنا بأن بلدان العالم إجماليها ثلاثمائة دولة .. وكان بإمكانك بأن تجمع رجل وامرأة من كل بلد .. ثم طرحت عليهم سؤالاً واحداً .. أياً كان نوعه .. ثق بأنك ستجد لديك ستمائة إجابة مختلفة ومتباعدة من كل فرد فيهم !!

الإنسان واحد في الهيئة العامة الخارجية ، لكنه مختلف تماماً من الداخل .. نفسياً واجتماعياً وعقلياً !

شيء غريب فعلاً .. ولكنه نحن بأي حال !


 

* * * * *


 

هل – بعد كل هذا – يشعر الإنسان بأنه ضعيف ؟

نعم يشعر الإنسان بأنه ضعيف !

لذلك شعر الإنسان بحاجته لمن هو أكبر منه !

الإله ..

فمنذ القدم شعر الإنسان بالاحتياج للإله كي يتضرع له ويغفر له حماقاته التي لا نهاية لها !

فحاول تجسيد الإله أمامه عن طريق الأصنام أو التعاويذ أو الطوطم وجعلها مرئية ومحيطة به لكي تراقب تصرفاته .. وأيضاً كي يتذلل لها كي تنعم عليه بالمأوى والغذاء والأمطار ! وألتف حول هذه المعبودات وقدم لها القرابين لكي ترضى عنه .. في بعض الحضارات القديمة كالأزتك والمايا كانت تقدم قرابين بشرية بغرض التقرب للآلهة !! وهو عمل أحمق وفي غاية القسوة ، لكنهم اقتنعوا به لاعتقادهم بأن الصنم سيجزيهم عنه بمنتهى الكرم الإلهي الذي لا ينضب!!

وجاءت الأديان السماوية الثلاثة التي تدعو بوحدانية الله ..

اليهودية – المسيحية – الإسلام ..

وإن اختلفت نوعاً ما في مضمونها !

ثم انبثقت الأديان الثلاثة إلى عديد من المذاهب الفرعية !

وجاءت أديان روحانية أخرى كالبوذية والزرادشتية والكونفوشيوسية والتاوية .. الخ !


 

الغريب بأن بالأديان وحدت جمع قليل من الناس وليس كلهم ! كما أنها السبب الرئيسي في انتشار الكراهية بين المجتمعات الإنسانية العديدة ! أي أن الأديان قد نجحت في لم شمل بعض الطوائف ، وأيضاً زرع الخلافات بين الطوائف الأخرى .. وقربت جموع قليلة من الناس في عقيدة واحدة ، وأبعدت إجبارياً باقي الناس من أتباع الديانات الأخرى !

أي أنها جمعت فئات قليلة .. وفرقت فئات أكثر !


 

* * * * *


 

ما هو أكثر شيء يؤمن الإنسان بوجوده أثناء حياته ؟


 

من الغرائب الموجود عند الإنسان أن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه هذا الجنس العجيب مهما كانت عقيدته أو جنسيته أو لغته أو ثقافته هو :

الموت!

إلى الآن لم يوجد شخص عاقل بإمكانه إنكار حقيقة الموت !!

ولعلها من السخرية أن تكون الحقيقة الوحيدة المتفق عليها في حياة الإنسان هي موته!

وقد يتجادل الإنسان في أي شيء ، إلا الموت !

وطبقاً لغريزة الإنسان الأولى والرئيسية ، فإن أكثر ما يخافه ويخشاه هو الموت !

لذلك فهو يقدسه ويرهبه في نفس الوقت ..

وهناك مراسم عديدة عند الشعوب تقام عند موت شخص ما ، وتختلف طريقة الدفن حسب ثقافة الشعوب وعقائدها ..

  • فهناك من يفضل دفن الميت في التراب !
  • وهناك من يحرق الميت !
  • وهناك قبائل تأكل جسد الميت كنوع من تكريمه واعتقادهم بأنهم – بهذه الطريقة – يعيش بداخلهم بعد موته !!
  • وهناك من يقطع جسد الميت وإطعامه للطيور آكلة الجيفة فيما يسمى (مراسم الدفن السماوي) .. فهم يعتقدون بأنهم دفنوا الميت في السماء بهذه الطريقة !
  • وهناك من زين وحنط جسد الميت وألبسه ثياباً فاخرة استعداداً لعودته مرة أخرى للحياة (الفراعنة) !
  • وهناك من يقطع أوصال الميت ويشوه جسده كنوع من الانتقام القذر والمشين إذا كان الميت من الأعداء مثلاً !


 

ومهما بلغت درجة تطور الإنسان في شتى العلوم ، فأنه – حتماً – سيقف عاجزاً وخائفاً أمام وحشاً مرعباً سيلتقي به مثلما التقى بمليارات من أجداده من قبل .. ولن توجد وسيلة معينة لإلغاء هذا اللقاء المرتقب ..

أنه وحش لا يعرف التفاهم أو التفاوض أو حتى الهذر ..

أنه وحش يسمى :

الموت !


 

* * * * *


 

إذا قرأت هذا الموضوع كاملاً ..

حاول استخدام التاج الذي ميزك عن غيرك من باقي الكائنات الأخرى ..

وأذهب بعيداً ..

بعيداً جداً ..

إلى غابة ما .. أي غابة تتجسد في مخيلتك ..

توجه إلى أي شجرة موز !!

هل ترى ذلك القرد الذي يجلس تحتها وفي يده موزة يستعد لأكلها ؟؟!

هل أصابك الفضول لتعرف فيما يفكر كتلة الشعر هذه ؟؟!

هل هو بالغباء والتفاهة التي تتخيلها ؟؟

هل تحيرك نظرات عينيه البليدة ؟!

هل حاولت تأمله ودراسة سلوكه التفكيري والاجتماعي والنفسي ؟


 

هل سئمت من وقفتك أمامه ومللت مراقبته ؟

حسناً ..

أعط له ظهرك وأرحل من أمامه في عدم اهتمام !!


 

ولكن ..

ولكنك لن ترى هذا القرد وهو يلقي بموزته هذه .. ويراقب ظهرك وأنت ترحل عنه في قنوط !

هل ترى نظرات الاهتمام في عينه وهو يتأملك ؟؟

هل تفهم ابتسامة السخرية المرتسمة على وجهه ؟

هل تعرف معنى انعقاد حاجبيه ؟؟ أنها تشبهنا نحن عندما نفكر !!


 

ما الذي يحدث من ورائك وأنت لا تلاحظه يا ترى ؟؟


 

هل تعرف أنت ؟؟

2‏/8‏/2008

هام وعاجل إلى السيد وزير الداخلية !


فخامة السيد معالي وزير الداخلية .

تحية طيبة وبعد ؛


مقدمه لسيادتكم العميد / سامي مجدي ، أبنك البار يا سيدي ..

والذي ستثبت تحريات سعادتكم الدءوبة عني كفاءتي الفائقة في العمل الشرطي طوال ثلاثون عاماً قضيتها في خدمة الوطن والنظام معاً بلا كلل .

سيدي معالي الوزير ، أريد في هذا الخطاب أن ألفت نظركم لظاهرة غريبة ومقلقة بعض الشيء عن وطننا الحبيب (مصر) ..

لذلك .. أتمنى أن تسمح معاليك لي بنقل ما حدث لي بالأمس بأمانة تامة من جانبي ، وسأترك لمعاليك – شاكراً – البت في هذا الأمر المريب .


* * * * *


بالأمس .. وفي الصباح الباكر ، تركت منزلي بعد مشاجرة حادة وجادة نوعاً ما زوجتي في البيت .. بالطبع هذه أسرار لا تخفى على معاليك !

لكن .. هذا اليوم بالذات فاقت المشاجرة الحد المسموح به مع زوجتي ، وترتب على ذلك خروجي من بيتي وأنا في أسوأ حالاتي المزاجية طراً ..

لكني لم أهتم ، وصممت على مواصلة أدائي لمهمتي تجاه الوطن .. مهماً بلغت ظروفي الشخصية !

لذا بمجرد خروجي من باب شقتي ، مددت يدي في جيبي وأخرجت نظارتي الشمسية (Ray ban) الشهيرة ذات اللون البني الغامق ووضعتها على وجهي في حماس ! طوال خدمتي في الشرطة وأنا أعلم قيمة هذه النظارة الشمسية الداكنة ، ليس القيمة المادية بالطبع ! لكنها القيمة النفسية .. الرهبة يا سيدي ! هذه النظارات – السحرية – تبدو على وجوهنا كأنها أعين كبيرة مفتوحة للأبد وتراقب بلا كلل كل من حولي في شك وريبة دائمة ، كما أنها تمنحنا الفرصة في ثبر أغوار وخفايا المواطنين دون أن يعرفوا أين تتوجه نظراتنا أو حتى من أي زاوية ننظر لهم ! أحياناً تساعد الشوارب الغليظة و (الكروش) البارزة في زيادة وقع هذا التأثير على الناس قاطبة !

لذلك تأكدت من صرامة ملامحي في مرآة المصعد ، وتيقنت من أن النظارة تخفي نصف وجهي كالمعتاد .. و(نفشّت) شاربي كعادتي كل صباح ..

ربما رتبت على (كرشي) في رضا وفخر لحظتها ، لكني لست متأكد من ذلك الآن !

عندما خرجت من المصعد ، تهجمت ملامح وجهي لا إرادياً – كالعادة – تحسباً لقدوم حارس العقار (البواب) مهللاً بلهجته القروية :

  • صباح الخير يا باشا .. أخبار سعادتك أيه ؟؟

أنها الكلمات المعتادة من عامة المواطنين والشعب إلينا نحن ضباط الشرطة ! بالطبع هذه أمور لا تخفى على معاليك باعتبارك ضابط شرطة كفؤ سابقاً .. أعني قبل تكليف سيادتكم بمهام وزير الداخلية !

لا أخفي على معاليك بأني كنت أحتاج لغو وكلمات الإطراء من البواب بشدة ، فقد تعكر مزاجي كثيراً جراء مشاجرتي مع زوجتي !

لحظتها كانت وظيفتي أشبه بجناحين كبيرين مثبتين في كتفي ، وهذا البواب هو الهواء اللازم لطيراني عالياً ، أما مفعول كلماته معي هو (السمو) الذي يصل بي لعنان السماء .. وإن كنت أخفي (سموي) هذا بداخلي ولا أعطي للبواب انطباع بأن كلماته هذه أثرت في بالمرة .. بالعكس ! فأنا أرمقه بنظرة قرف عميقة من وراء نظارتي ، وكثيراً ما تجاهلت رد تحيته .

في هذا الصباح لم أجد البواب وراء باب المصعد .. تجاهلت الأمر وكأن شيئا لم يحدث ، من يدري ؟ لعله ذهب لشراء شيء ما لأحد السكان الأوباش جيراني في العمارة !

عند توجهي لباب المبنى وجدته ..

البواب ..

كان مستلقياً على أريكته الخشبية في خمول ..

أعترف لمعاليك بأن المنظر كان صاعقاً تماماً ..

هل تجاهل – قاصداً – القدوم إلى باب المصعد كعادته كل صباح ؟؟

المهم ..

عندما مررت بجانبه ، لم يغير وضعه بالمرة !! بل أقسم لمعاليك بأنه نظر مباشرة إلي عيني وهي خلف النظارة في برود ، وابتسم ابتسامة ساخرة سريعة ، ثم أغمض عينه في تراخي مملوء بالنعاس المزيف ..

هكذا يا معالي الوزير !

هكذا حدث أول موقف معي بالأمس ..

وهكذا بدأ الأمر !!


* * * * *


أثناء ركوبي سيارة (البوكس) متوجهاً إلى القسم ، أمرت السائق بأن يأخذ طريق (الكورنيش) كنوع من التغيير ، لعل رؤيتي للنيل تغير قليلاً من مزاجي السيئ هذا .. كما أنها فرصة لا بأس بها لضبط بعض المواطنين الأوغاد أثناء ارتكابهم لبعض الأفعال الفاضحة على ضفاف النيل .. أنه نوع ما من أنواع (الاستفتاح) الهين ، فأنا أرغب في بداية هذه اليوم – بالذات – ببعض المحاضر الخفيفة نوعاً ما .

كان الطريق مزدحماً بعض الشيء وتوقفنا كثيراً في الإشارات !

لحظتها اكتشفت ثاني أغرب شيء في هذا اليوم :

كل قائدي السيارات كانوا يرمقونني بنظرة غريبة وطويلة !

نعم معاليك .. كانت نظراتهم عميقة جداً لدرجة أنها اخترقت سواد نظاراتي واجتاحت سواد عيني نفسه وتبغي غزوه في شراسة ! أنها نظرات مرعبة ومخيفة للغاية !!

سابقاً وفي مثل هذه الحالة ، كان مجرد التفاتي لأي قائد سيارة كفيلة بإدارة وجهه للناحية الأخرى أو يطأطئ وجهه للأسفل .

لكن الآن كل العيون حولي مركزة إلى عيني أنا ..

ولا أنسى نظرة أحدهم وهو نحيل بالمناسبة ، نظر إلي ملياً .. فقررت صد نظراته بنظراتي الخاصة والتي تدربت عليها طويلاً من قبل ..

إلا أن حدة نظراته كانت تزيد مع الوقت ، وبدأت ابتسامة ساخرة تتوالد على شفتيه في تحد واضح منه !!

ربما هذه أول مرة أنحي فيها وجهي بعيداً هرباً من نظرات شخص آخر !!

أنقذني من هذا الموقف الصعب اخضرار أشارة المرور ومضي هذا الشاب لحاله , لحظتها بدت لي إشارة المرور هذه كأنها شجرة يانعة أتت بثمار طيب .. أنه كرامتي الشخصية يا معالي الوزير !


* * * * *


بدأت التساؤلات تنهش عقلي وصدري بعد الموقف السابق !!

ما الذي يحدث ؟؟

هل هناك عيب في هيبتي اليوم ؟؟

كان لابد لي أن أتأكد من حجم هيبتي .. وبشدة ..

لذلك صرخت في سائق (البوكس) وأنا ألكزه في صدره بعنف :

_ أنت ماشي بالراحة كدة ليه يا حيوان أنت ؟؟ ماتشد حيلك شوية ؟؟

هنا ارتجف السائق كعادته ، وبدا الذعر على وجهه وقال :

_ أمرك يا سامي بك ، بس النهاردة (الكورنيش) زحمة شوية .

لوهلة ابتسمت في رضا ، إذن الهيبة لاتزال موجودة ..

وتنفست الصعداء لحظتها .. إلا أني تذكرت أمراً ما مهم ..

هذا السائق هو عسكري معنا في القسم وليس من المواطنين الأوغاد ، أي هو في نفس حقلي الوظيفي !

أريد التأكد من الأمر مع أحد المواطنين العاديين الأوغاد !!

بناءاً عليه أمرت السائق بالوقوف جانباً ، وترجلت أنا من (البوكس) باحثاً عن من يصلح لتجربة هيبتي عليه !

لم أطل البحث ، فقد وجدته جالساً في شرود على أريكة أمام النيل !

توجهت إليه في ثقة وأنا أرسم ملامح الجدية على وجهي ، واعدل وضع نظارتي الشمسية على وجهي ..

وبداخلي تترد أغنية وليدة في هذه اللحظة العجيبة ..

أغنية تقول :

ها أنا قادم إليك أيها الشاب الأحمق ، سأنهل من كرامتك لكي تزيد هيبتي .. كن فأر مذعوراً لكي أبدو أنا أسداً هصوراً .. كن فريسة سهلة وضحية راضخة حتى أكون أنا أعظم صياد ..


هل تتمتم معاليك بأنها لا تصلح كلمات لأغنية ؟؟


* * * * *


وصلت للشاب ، وربت على ظهره في بطء وقلت :

  • أنت قاعد لوحدك بتحب على روحك يا (حمادة) ؟؟

رفع الشاب نظره إلي في هدوء وقال :

  • أنا أسمي مش (حمادة) !
  • طب (قب) بالبطاقة يا (حلاوة) عشان أعرف أسمك كويس !
  • عايز بطاقتي ؟؟ طب ما تسأل على اسمي لو حضرتك مهتم أوي تعرفه ، بس برضة أسمي مش (حلاوة) !
  • لا يا خفيف .. أنا عايز بطاقتك عشان أنا ظابط .. أطلع بالبطاقة !
  • كارنيهك .
  • نعم يا (روح أمك) ؟؟
  • احترم نفسك يا راجل أنت ، أنت شكلك كبير في السن .. يعني المفروض تتكلم كويس حتى لو كنت ظابط !! بس حضرتك عايز بطاقتي ليه يا ترى ؟؟
  • مزاجي .. شكلك مش عاجبني .. شكلك مشبوه .. أبرز بطاقتك حالاً ..
  • أنا شكلي مشبوه ؟؟ ماشي يا سيدي .. أنت كمان شكلك مشبوه ومش لايق عليك ظابط أبداً .. أبرز الكارنيه بتاعك عشان أتأكد منك الأول .. بعدين أوريك البطاقة بتاعتي !

هنا فقدت سيطرتي على أعصابي تماماً ..

لقد تجمع كل ما مررت به في يومي حتى الآن في يدي ، وهويت بها على خد هذا الوغد في شدة .. لدرجة أن خيط رفيع من الدم بدأ ينسال من الركن الأيسر لشفته !

بالتأكيد سيرضخ الآن ويبكي معتذراً ويطلب مني الصفح على فعلته الشنيعة هذه !!

هذه هي الطريقة الوحيدة لمعاملة المواطنين الغوغاء أمثاله ..

أنها الطريقة المثلى التي تعلمناها في كلية الشرطة للتعامل مع أفراد الشعب العصاه ! أي أنها طريقة عادية ومألوفة لا تخفى على معاليك !

إلا أنه ..

إلا أنه حدث استثناء لهذه القاعدة ..

دعني أعود بك لهذا الشاب وما قد حدث بعدها ..


* * * * *


بعد صفعتي على وجه الشاب النزق .. وقفت أمامه منتظراً إياه لأن يبرز بطاقته !! إلا أنه وقف يرمقني في هدوء ، ويحاول – هو الآخر – أن يخترق زجاج نظارتي !! ثم رفع يده في بطء .. ومرر ظهر يده على شفته الدامية .. ثم نظر في هدوء إلى أثار الدماء عليها .. ووجه إلى نظره مرة أخرى وقال في هدوء لم أتوقعه منه :

  • طلبت منك من قبل أن تحترم نفسك معي .. لكنك تجاوزت حدك !! ربما هو غباء منك .. لكن – من فضلك – لا تلم إلا نفسك !

ودون أن أفلح في فك طلاسم كلماته هذه ، أو حتى أفهم شيئاً مما قاله ..

هوى الشاب على وجهي بلكمة قوية ..

نعم معاليك ..

لقد لكمني ..

لعلك لا تصدق معاليك أمكانية حدوث هذا ..

حتى أنا لم أصدق البتة !

ولم يؤكد لي هذا إلا وقوعي على الأرض ..

وخيط الدم على شفتي ..

الأغرب من ذلك أن هذا المجرم انحنى على وجهي وأنا راقد وقال :

  • ألم تفهم بعد ؟؟ لقد تعرى نسركم من كل ريش يحيط به ..

وبصق على نظارتي واستدار مغادراً المكان في هدوء كأن شيئاً لم يحدث !!

هل كان الجنون ذاته يرفرف بأجنحته فوق رأسي في هذه اللحظة ؟؟


* * * * *


صدقني معاليك ..

لقد أصدرت كافة أوامري العصبية والعضلية لجسدي للحاق بهذا المجرم ، إلا أن هول ما حدث أصابني بشلل لحظي غير عادي ..

هل حدث ما حدث ؟؟

لقد تأثرت كرامتي وهيبتي في تلك اللحظة أكثر مما اتسخت بذلتي (الميري) من تراب أرضية (الكورنيش) القذرة ..

لقد مررت بأصعب ما يمر به ضابط شرطة ، لقد أعطيت صفعة وتلقيت لكمة يا سيدي !!

وصدقني مرة أخرى معاليك ..

مهما وصفت لك .. فلن استطيع وصف ما رأيته من وراء عيني الزجاجية المبصوق عليها ..

لقد ..

لقد رأيت النيل نفسه يسخر من سقطتي هذه ..

أهذا ممكن يا سيدي ؟؟


* * * * *


عندما ذهبت للقسم الذي أعمل به تأكدت تماماً أن الموضوع ليس شخصي بالمرة .. لاحظت هذا في أعين الزملاء الضباط .. كلهم جاءوا بلا نظارات شمسية على الإطلاق !! نظرات أعينهم تملؤها الذهول والهلع .. ربما لم يفصح أحداً منا عما حدث له ، لكنه أمر واضح وجلي في نظراتهم !

حتى تعامل المواطنين الأوغاد اختلف تماماً .. لقد تعاملوا معناً كأننا – مجرد – موظفين حكومة نعمل لخدمتهم ..

هل تتخيل معاليك بأن مواطن حقير عادي كان يمزح مع مأمور القسم قائلاً :

  • مهنة ضابط الشرطة هي أسهل مهنة في بلدنا .. يكفيك مجموع 50% في الثانوية العامة لتدخل كلية الشرطة ! وعند تخرجك منها ستجد وظيفتك جاهزة لاستقبالك ، لن تتعب نفسك في عمل سيرة ذاتية وتقدمها لقسم شرطة معين تعمل به !! المسألة (سبهللة) على الأخر .


وهناك حقير أخر رفض أن يناديني باسم : سامي بك .. بل قال ببساطة : العميد سامي !!

وعندما نبهته لذلك الأمر ، قال في فجاجة وقحة :

  • هل أفهم من ذلك بأنك تنادي بإسقاط الجمهورية وتنادي برجوع الملكية ؟؟

ألجمتني إجابته للغاية ، وسألته في عصبية عن السبب فيما يقوله ، فأجاب :

  • من أهداف ثورة يوليو إلغاء الألقاب .. (باشا ، بك ، أفندي ، خديوي) كلها ألقاب من العهد الملكي البائد .. فهل تنادي أنت برجوع تلك الألقاب وبالتالي رجوع الملكية يا عميد سامي ؟؟


* * * * *


معالي الوزير ..

تقديراً لكفاءتي الوظيفية تردد أنباء عن احتمال ترقيتي إلى رتبة (لواء) قريباً .. وهذا يعكس أشياء عديدة منها سلامة قواي العقلية أولاً !

ولكن ..

هناك شيء ما يحدث ..

هناك ظاهرة ما بدأت في الانتشار مؤخراً ..

أنهم لا يهابونا على الإطلاق ..

فقط يخشانا المسجلين الخطرين والمجرمين الاعتياديين ..

لكن باقي المواطنين لا يخشونا ..

كنت أظن أن الأمر بدأ مع زوجتي (بالمناسبة : هي من بدأت الشجار معي بالأمس ) ..

لكن هناك البواب ..

وقائدي السيارات ..

وكافة فئات المواطنين ..


هناك شيء ما يحدث ..


هناك شيء ما يحدث ..


الرجاء سرعة التدخل للحد من تلك الظاهرة الفظيعة !

وإلا اضطررت أسفاً لتبديد رصاصة من عهدتي وإفراغها في رأسي لكي يتوقف هذا الجنون ، أقله بالنسبة لي أنا .,


فنحن في خطر يا سيدي ..


صدقني يا معالي الوزير .. نحن في خطر .

أنا خايف يا سيدي ..

خائف للغاية ..

ربما وضح ذلك من ارتعاش خطي في هذا الخطاب !

فأنا أرتجف يا سيدي ..

أرجوا أن تلفت معاليك جدياً للتحقيق في أسباب هذا الكابوس ..

أرجوك يا سيدي ..



وتقبلوا بفضول ماحق الاحتراس



مقدمه لمعاليكم :
عميد / سامي مجدي .