23‏/10‏/2008

عملاق ينام بعيون متسعة ؟!

شاهدت منذ فترة قريبة فيديو قصير جداً أوقعني في حبائل ذهنية رهيبة للغاية بسبب فكرته العميقة – برغم قصر مدته – والتي جمعت قواعد السخرية والواقعية والتجريدية والعبثية أيضاً ..

هذا الفيديو سيكون أساس لا يمكن إنكاره لهذا الموضوع ! بناءاً عليه فضلت إثارة الحواس التخيلية لديك أنت ! لذلك قررت وصف الفيلم هنا عوضاً عن إدراجه بين ثنايا الموضوع .. لنقل أني أهديك دار عرض خاصة (سينما) داخل تعاريج مخك !

لنبدأ الوصف :

المكان : تلتقط الكاميرا عدة مشاهد سريعة من زوايا مختلفة لمركز تجاري راقي وفخم (Mall) .. يمكنك الجزم بأن هذا المركز الأنيق لا يتواجد في دولة عربية ! بل في أحد الدول الأجنبية (تقريباً أمريكا) .. وذلك بسبب تلك الملامح الغريبة والبعيدة عن ملامح سكان الشرق الأوسط ! أشخاص منهمكين في الشراء هنا وهناك .. بعضهم مشغول بمشاهدة واجهات المحلات الفخمة وبعضهم يتحادث أثناء تجواله بلا اكتراث أمام المحلات !

لقطة سريعة لبعض الأطفال وهم يلعبون بأرجوحات بلاستيكية في سعادة وبراءة طفولية تناسب سنهم ..

تتقدم الكاميرا ببطء نحو أحد السلالم الكهربائية التي تتوسط المركز التجاري ! بإمكانك تمييز جمع من الناس يقارب العشرة أفراد يستقلون هذا السلم .. أعمارهم مختلفة نوعاً ما ..

هنا سكنت حركة الكاميرا تماماً وعدستها مركزة على ذلك السلم !

بإمكانك مشاهدة حركة السلالم الكهربائية وهي تتصاعد في وضوح تمام ! أيضاً يمكنك مراقبة ملامح هؤلاء الأشخاص .. وبالتالي تعبيرات وجوههم !


وفجأة ..

تعطلت حركة السلم الكهربائي وتوقف عن العمل !!

بدأت معالم الاستنكار على من يستقلون ذلك السلم .. وبدأت صيحات السخط تتصاعد ..

أحدهم طرق بعصبية على سياج السلم محاولاً تنبيه أحد المسئولين عن السلم لتدارك إصلاحه ..

إلا أن برهة ليست هينة من الوقت مرت دون أن يعمل السلم مرة أخرى !!

ولا يزال مرتاديه في مكانهم لا يتحركون ، بعضهم جلس في مكانه على درجات السلم في يأس مستسلم .. وبعضهم مازال محتفظاً برباط جأشه في صبر مشوش ..

  • ثمة هناك فتاة بدأت تنهار من هول الموقف ، فارتمت في أحضان صديقها الذي بدا متماسكاًَ حتى هذه اللحظة ..


  • رجل يبدو من هيئته أنه رجل أعمال قام بإخراج هاتفه المحمول واتصل بشركته ليبلغهم باحتمال تأخره نظراً لوقوع عطل فجائي في السلم الكهربائي ..


  • طفلة جميلة بدأت تصدر نشيجاً ينذر بنوبة بكاء هلعة قريباً !


  • رجل عجوز بدأ يتلو صلاته وأخذ يناجي ربه في تضرع كي ينقذه من هذا الموقف العصيب !


  • شاب مراهق يبدو هادئ الملامح تماماً وترتسم على وجهه ملامح اللامبالاة المميزة لمن في سنه ، إلا أنك يمكن ملاحظة ارتعاش يديه !


  • بعض الناس المحظوظين في الأدوار العليا والسفلى اجتمعوا حول السلم ويراقبون ذلك الحدث المرعب .. بعضهم بدأ يشير إلى السلم وينبه أقرانه إلى تلك المصيبة التي تحدث الآن ! يمكنك سماع شهقات الفزع منهم بسهولة تامة !


مرت ساعة حتى الآن .. والوضع كما هو ..

إلى أن وصل فريق الدعم الفني وبدأ في إصلاح العطب في السلم ..

وتنفس الجميع الصعداء عندما عادت الحركة إلى السلم مرة أخرى .. بعض من الجمع الغفير أخذتهم الحماسة وصفقوا بحرارة إلى فريق الدعم الفني الشجاع ..

انتهى الفيلم بعبارة مقتضبة مفادها :

لا تعليق ..


هنا انتهى دور الفيلم في موضوعنا هذا .. إلا أني أرغب في تجاهل العبارة الأخيرة منه .. وسأستمر في التعليق عن الموضوع ..

ولكن بطريقتي أنا ..


* * * * *


في ثمانينات القرن التاسع عشر – أي ما بين عام 1880 وحتى عام 1889 – وقف لورد في مجلس اللوردات الإنجليزي يطالب بحرق مكتب (براءة الاختراعات) أو حتى هدمه !! وذلك لأن الإنسان توصل- عن طر يق العلم – إلى قمة الاكتشافات التكنولوجية الممكنة !! فقد تم اختراع القاطرة البخارية ، والتليفون ، والمراجل العملاقة ، وكاميرا التصوير الفوتوجرافي ، التلغراف البرقي ، والمناطيد الطائرة ، وأجهزة التكييف ، والعديد من الاختراعات الأخرى المفيدة .. وبناءاً عليه طالب ذلك اللورد بإلغاء فاعلية مكتب براءة الاختراع لعدم وجود فائدة منه فيما بعد ..


في عصرنا الحالي يمكننا إطلاق مصطلح (عبيط) أو (أهبل) لوصف ذلك اللورد دون أدنى إحساس بالذنب أو وجود وازع لتأنيب الضمير .. فأقل مقارنة بين حياتنا المعاصرة الآن وبين الحياة منذ مائة سنة ستؤكد (عبط) أو (هبل) هذا الرجل بالتأكيد ، ربما ستفضح هذه المقارنة غرور الإنسان نفسه وانبهاره الأرعن بما يقوم به من اختراعات !


دعنا نختصر المائة عام هذه ونجعلها عشرين عاماً فقط !

فقط عد بذاكرتك للخلف مجرد عشرين عام..

ستجد لديك فرق هائل وملحوظ فيما يسمى (الرفاهية الحياتية) ..

فرق رهيب ما بين اليوم وأمس ..

اختراعات عديدة بدأت تفرض نفسها بنعومة في حياة كل شخص منا ، حتى أصبح وجودها حتمياً بالنسبة لنا .. وبالتالي أصبح غيابها عبئاً رهيباً وخطيراً إلى معظمنا ..

كيف ؟؟!

سأقول لك ..


* * * * *


إذا كان عمرك تخطى السادسة عشرة عاماً .. فأنت إذن تعي حقبة معينة وقريبة من الآن كانت الحياة تختلف فيها بطريقة ملحوظة جداً عن الوقت المعاصر ..

في تلك الحقبة كانت العائلات تمتلك – مثلاً – خط تليفوني واحد في كل بيت ! وكان هذا الهاتف ثقيلاً نوعاً ما ، وكان يعمل بقرص دائري يحتوي على أرقام تستخدمه في طلب من تريد محادثته ! وكانت الخدمة التليفونية وقتها سيئة للغاية (الله يرحم يا بتوع المصرية للاتصالات) !! ويعتبر حظك عاثراً إذا وجدت الهاتف الذي تريد طلبه مشغولاً .. بالتالي يجب عليك المحاولة مرة أخرى (وأنت وحظك مع القرص) ..

بعد ذلك ظهر هاتف يعمل بالأزرار بدلاً من القرص ..

ثم أضيفت خاصية إعادة الاتصال (Redial) والذي اختصر المجهود والوقت الضائع في محاولة إعادة الاتصال ..

ثم جاء عام 1998 ..

وظهر في مصر عملاق رهيب وليد ثورة تكنولوجية اتصالاتية كادحة ..

المحمول ..

أو (الموبايل) كما هو شائع اسمه الآن ..

طفرة رهيبة جداً لا يمكن إنكارها في عالم الاتصالات !

أصبح من السهل جداً الوصول إلى أي فرد ترغب في التحدث معه بمجرد الضغط على عشرة أرقام !! سواء كان هذا الفرد في بيته أو حتى في الشارع ..

صار بإمكاننا التخلص من القيود (السلكية) والذي فرضها علينا هاتف المنزل الكئيب ..

المحمول في جيب الجميع (مع الاعتذار للحملة الإعلانية لشبكة موبينيل التعبانة) !

ولم يتوقف التطور في المحمول عند هذا الحد فحسب ..

فقد ظهرت أيضاً ميزة الرسائل القصيرة ، والتي تعتبر هامة نوعاً ما أيضاً بالنسبة لمفهوم الاتصالات ..


الجميل في تقنية المحمول أنه بدأ من حيث انتهى الجيل السابق في علم الاتصالات .. فلم نصادف يوماً محمولاً له (قرص دائري) بدلاً من لوحة الأرقام مثلاً !! أو محمول له زر لفتح وغلق الخط كالتليفون العادي !! بل هو مسار تقني مستقل بذاته تمرد على تقاليد أبيه العتيقة والبدائية نوعاً ما مقارنة به .. ربما كان هو أول أبن (عاق) يستحق الإعجاب في التاريخ ؟!

وتتوالى الطفرات الهائلة المنبثقة من تكنولوجيا المحمول لتحتل مكانها في جيوب حاملي المحمول .. ولا نملك إلا أن نصبر صاغرين في انتظار الجديد والذي يولد كل يوم بدون مبالغة .. ولم نستطيع أن نخفي شغفنا ولهفتنا وفضولنا إزاء (المولود التكنولوجي) القادم ..

فكأننا نقف – في قلق – خارج باب (غرفة الولادة) التكنولوجية في انتظار انتهاء العلماء من استخراج (جنين) حديث من (رحم) العلم ! وما أن نسمع صرخات الوليد نهرع عليه ونحتضنه بكل لهفة وسعادة ..


* * * * *

العام : 1998 (أيضاً) ..

ظهر نظام (Windows 98) إلى الوجود واحتل الصدارة من سابقيه :

(Windows 95 & Windows 3.11) !

وبدأ العالم يتقبل فكرة اقتناء جهاز كمبيوتر في كل منزل ..

في بداية الأمر أنتشر على استحياء ..

ثم اجتاح العالم بلا رحمة واحتل اهتمام الناس دون استئذان ..

وأصبح الكمبيوتر بديل طبيعي لعدة أجهزة منزلية كثيرة مثل (الفيديو ، الكاسيت ، ألعاب الفيديو ، الآلة الكاتبة ، التلفاز ، وأحياناً يحل محل الكتاب) !!

وأكتملت المنظومة كلياً عند أنضم صديقاً أخر للتحالف ..

أنه الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) !

أصبح من السهل على المرء فينا أن يجلس في حجرته أمام حاسوبه ، ثم يغادرها بسرعة البرق إلى أي مكان في العالم قبل أن يرتد إليه طرفه !

عادي جداً أن يعرف أخبار ما يحدث في أقصى الشرق من العالم ، وبعدها بثانية أخرى يتعرف على عادات وتقاليد شعب بأكمله يعيش في أقصى غرب العالم !

والوسيلة المستخدمة في ذلك هي (كابل ، حاسوب يحتوي على عدة أزرار) !

بالتأكيد لا حاجة لي هنا بمناقشة الإنترنت !! فأنت تستخدمه الآن بلا شك لقراءة هذه الكلمات !! سأبدو حينها بمن يستوقفك في الشارع وأنت تركب سيارتك ويقول لك : (أنت تركب سيارة لها أربع عجلات ، تسير بالوقود ، ولها عجلة قيادة ، وبها كلاكس ... الخ ) !!



* * * * *


من العبث أن أحصر الوسائل التكنولوجية الحديثة هنا !!

ممكن أن نذكر أشياء يسيرة وبسيطة ترد على خاطرنا بسهولة كنتيجة للتعامل المباشر معها .. لدينا مثلاً :

(أجهزة الاستقبال الرقمية المنزلية (الدش) ، الأقراص الممغنطة فائقة السعة (DVD) ، الميكروويف ، الوسائط المتعددة بأنواعها الكثيرة ، كاميرات التصوير بأنواعها المتعددة ، تكنولوجيا الفضاء ، وسائل المواصلات المرفهة ـ الأسلحة والمعدات الحربية ..

والقائمة مفتوحة بلا انغلاق ..

فمن بمقدوره أن يضع سداً أو حاجزاً للغزو التكنولوجي العارم ؟!

أجمل ما في ذلك الغزو هو انسياقنا نحن إليه !! نحن من نهرع إليه ونتوسل له ليضعنا ضمن مملكته !

أما من هو بمنأى عنه وبعيد عن سطوته فأننا نصفه بقرف واشمئزاز حضاري بأنه (متخلف) عن الزحف التكنولوجي !!

؟؟؟


* * * * *

امتحان مفاجئ ..

أجب عن جميع الأسئلة الآتية في سرك واحفظ إجابتها مؤقتاً في رأسك لحين انتهاء هذه الفقرة :

صف شعورك بالتفصيل عن حدوث حالة من الحالات الآتية :

  • انقطاع التيار الكهربائي لمدة ساعة كاملة ؟


  • عطل مفاجئ في سيارتك ؟


  • سماع نغمة بعينها من محمولك والتي تفيد بأن (البطارية فارغة) ؟


  • نظام التشغيل لحاسوبك توقف عن العمل (الويندوز ضرب) ؟


  • ثلاجتك أعلنت العصيان عن الدور البارد التي تقوم به ،وقررت التنكر على هيئة (دولاب) عطن في مطبخك ؟


  • فشل محمولك في إيجاد إشارة من الشبكة ؟


  • (عفواً .. المصعد عطلان) لافتة فوجئت بها أثناء استعدادك لركوب المصعد في رحلة قصيرة – ومجانية – إلى أحد الأدوار العليا !


  • موقد الميكروويف يتجاهل أوامرك له ، بل يصر في بلادة عدم تلقي أي أوامر منك !


  • ظهور شوشرة واضحة على القنوات الفضائية بسبب مشكلة الترددات في جهاز الاستقبال (Receiver) ! أو بسبب أن الرياح الموسمية قد قامت بمزاح ثقيل نوعاًَ ما مع طبق الاستقبال (Dish) فاختل وضعه أفقياً ورأسياً ؟


  • مشغل الأقراص المدمجة (CD Player) لديك يعاني من بعض الأتربة التي غطت العدسة القارئة ، لذلك فهو (يتقيأ) – بعند – كل اسطوانة تحاول جاهداً إدخالها في فمه البلاستيكي ؟


  • (الطامة الكبرى) : وردت لديك أخبار مؤكدة بأن خدمة الإنترنت في منطقتك أصابها عطل كبير وأن وقت إصلاحها قد يستغرق عدة أيام !!


  • (حتة رعب): أثناء سريانك في الشارع ، سمعت صوت هاتفك المحمول يصرخ في جيبك .. فتمد يدك لترد على طالبك !! لكن يحدث ما ليس في الحسبان وينزلق الهاتف من يدك إلى الأرض !! محمولك يمارس رياضة (التزلج على الأسفلت) برشاقة وخفة محدثاً صوتاً (خرشفياً) جراء الاحتكاك برمال الأسفلت الخشن .. من فضلك أذكر لي عدد ضربات قلبك في هذه اللحظة ؟؟


  • (حتة ياع) : بعد ممارستك لحقك البشري في المرحاض ، وبعد انتهاءك من ارتداءك لملابسك مرة أخرى .. توجهت بحسن نية مغلفة بنزعة (أوتوماتيكية) إلى الزر السحري في المرحاض والمسمى (صندوق الطرد المركزي) أو المعروف باسم (السيفون) .. إلا أنك فوجئت بسماع (تكة معدنية) غير مألوفة !! الزر مصاب بعطب جذري ولا يمكنه العمل !! من فضلك صف لي شعورك وأنت تواجه هذه المشكلة (التصريفية) الجادة ؟؟!


إذا راودك إحساس – ولو ضئيل – ضئيل بالهلع أثناء قراءة ما سبق ..

فاسمح لي بأن أضيفك ضمن الأشخاص الذي يحتويهم الفيلم القصير الذي تكلمت عنه في بداية هذا الموضوع !!

مرحباً بك في السلم الكهربائي !!

على الأقل في مخيلتي أنا ..


* * * * *


من المؤكد أن قدراتنا العقلية والذهنية قد تأثرت تحت تأثير النزح التقني الذي يتوغل في عالمنا كل يوم !

في طفولتنا مثلاً كان باستطاعة معظمنا أن يجري عمليات حسابية باستخدام ذهنه فقط .. 13 × 2 = 26 .. كان الناتج يخرج من عقولنا بطريقة تلقائية تماماً ..

ثم جاء ضيف أخر يسمى (آلة حاسبة) .. فاستخدمناه لإجراء عمليات حسابية معقدة ، هذه العمليات بمقدور العقل البشري إجراءها .. ولكنها تستغرق وقتاً طويلاً جداً لإجرائها .. كما أنها تحتاج لصفاء الذهن تماماً .. لذلك ابتكرنا هذه الأداة المساعدة لنا ..

وكانت النتيجة أننا أصبنا بخمول ذهني .. فاعتمدنا على هذه الآلة في إجراء عمليات أخرى بسيطة نسبياً ..

ومع الوقت أصيب العقل الحديث بالكسل أمام هذه العمليات الحسابية التافهة .. فأحياناً تجد شاب ناضج واقفاً في حيرة ويحاول حساب المتبقي من المائة جنية بعدما اشترى بما قيمته 83,35 جنية .. هل الباقي هو 26,75 جنية يا ترى ؟؟ الشاب يفكر ويفكر .. ويسعى جاهداً ألا يتعرض لمحاولة نصب من قبل البائع .. وإذا اخترقنا عقله أكثر وأكثر .. سنجد أن هناك إشارات كهربائية من مخه تصرخ قائلة فيه :

« استخدم الآلة الحاسبة الموجودة في (الموبايل) يا عم أنت وخلصنا ..» !


باختصار شديد جداً ..

لقد وقع معظمنا (وأنا معهم) فريسة لمرض مؤسف أسمه :

الصدأ الحضاري ..


فالتقدم التكنولوجي – بوسائله – يقدم لك الراحة وصفاء البال على وسادة فخمة وثيرة تتكئ برأسك عليها في خمول ناعس .. ثم يقوم عنك بأعمال كثيرة وعديدة .. وكل ما عليك هو الضغط على عدة أزرار مريحة هي الأخرى ! وتتركه يعمل أمامك في آلية مجردة ..

وصل الأمر أنك تدعه يتحكم في أمور كثير في حياتك ..

فأصبح يعمل أمامك .. ومن ورائك أيضاً ..

ولو اعتمدنا على ما تبقى لنا من قدرات تخيلية ، فيمكننا مشاهدة التكنولوجيا برزت لها أنياب طويلة تتسلل إلى عقولنا .. ثم تبدأ بإذابة حواسنا واحدة تلو الأخرى في صبر رهيب تمتلكه آلياتها ..


مارد رهيب جداً لكنه بسيط جداً .. مكون من قطع بلاستيكية وقليل من المعادن موصلة بدوائر سيليكونية لامعة ..


ربما لهذا السبب تبلورت أفلام الخيال العلمي كلها في أن المستقبل سيشهد تمرد تلك الآلات على الإنسان وتبدأ في محاربته في تأني واثق .. لا مشاعر ولا مجال للحظة ندم واحدة ..


ويتركز دور الإنسان في تلك الأفلام على الصراخ والهلع .. ثم الهرولة هنا وهناك في تخبط حائر .. وأخيراً يموت في هدوء على قارعة الطريق بفعل أسلحة وحش آلي يتخطاه في هدوء لا مبالي .. ويراجع برمجياته بقصد البحث عن كائن أخر يزهق روحه في برود !!


قد تكون هذه نبوءة تعلن نهايتنا على الأرض ..

وقد يكون المستقبل أكثر رفاهية لنا ..

إلا أن بوادر هذه التقنية مخيب للآمال ..

فالتلوث في عالمنا ارتفع للغاية في القرن الأخير بسبب رفاهية البشر ..

واختلف معنى الحروب – تماما – بسبب التقنية الحديثة في القتل الجماعي ..

وانتشرت الأمراض المستعصية العديد على قدرات فهم وإدراك الإنسان .. فوقف أمامها عاجزاً يراقب آثارها المميتة ، ولا يملك إلا أن يقلب كفيه كدليل على العجز أمام بضع فيروسات تافهة لا ترى حتى بالعين المجردة ..

لقد تحولنا إلى مدللين ننعم بوسائل معيشية رغدة ..

إلا أننا نبكي هلعاً بمجرد غيابها عنا ..

في نفس الوقت لا نستحي بأن نعلن غرورنا بقدراتنا العقلية الفائقة ..

غريب أمرنا هذا !!


* * * * *


مشهد مسرحي قصير جداً ..

المكان :

أبعد مما تتخيل ببلايين ملايين السنين الضوئية ..

الزمان :

لا يوجد !


ينحني دخان سرمدي على أذن ثقب أسود بجواره ويسأله في تعجب وهو يشير إلى نقطة ما بعيدة :

  • ما بال هذا الكويكب الأزرق هناك ؟؟ لماذا يرتجف هكذا ويتصاعد منه أدخنة كثيفة ؟؟
  • لا أعرف يا عزيزي .. لقد جنت هذه النقطة الزرقاء كثيراً مؤخراً .. يبدو أنها ستبدأ رحلتها الطويلة لتستقر في أحشائي !

ينظر الدخان السرمدي في حيرة إلى الثقب الأسود .. فبادله الثقب الأسود نظرته في هدوء .. ثم غمز له في خبث وثقة ..

وهنا استشف الدخان السرمدي مغزى كلامه .. فتبادلا معاً ضحكة ساخرة طويلة وقاسية ..

؟!


8‏/10‏/2008

الخوف الأعظم !


من أكثر الأحاسيس مشاعاً بين الجنس البشري – قاطبة – هو الإحساس بالخوف ! وقد بدأ معه هذا الإحساس منذ بداية تواجده على هذا الكوكب ، عندما بدأ يعي معنى الإحساس بالزمن والألم والشبع والحب وما إلى ذلك ! إلا أن الخوف قد تسيد على شعوره بطريقة مبهمة وقوية ، فقد بدأ يخاف من البيئة المحيطة من حوله (كالظواهر الطبيعية التي فشل في تفسيرها وقتها) ، أو الخوف من الحيوانات كلها ..ثم بدأ يميز الحيوانات التي يمكن استئناسها والسيطرة عليها ، وركز جام خوفه من الحيوانات الشرسة والمفترسة بعد أن فشل في ترويضها !!

وعندما بدأ الإنسان يعيش في جماعات ، أنتشر خوف الضعيف منهم من القوي فيهم ، وانتشر مفهوم الخوف على منهجية أكبر قليلاً ..

ومع نمو الزمن وانتشار الإنسان على الأرض .. بدأ مفهوم الخوف يتسع ويزداد معه أينما ذهب ! وكلما ولدت حضارة جديدة في منطقة أخرى ، زحف الخوف معه كأنه رفيق محتوم ومختوم على وجود الإنسان ذاته ..


المجهول ..

هو أكثر ما يؤرق الإنسان ..

فمصيره مجهول ، ولا توجد وسيلة جادة وفعالة لكشف ذلك المجهول .. لهذا بدأ الإنسان يتجه إلى السحر ! وأبتكر وسائل عجيبة للتنجيم وكشف الغيب !! إلا أنه تمرد عليها – كدأبه – وحاول التوصل إلى وسائل أخرى أكثر فعالية من مجرد (أوراق كوتشينة أو بلورة سحرية) ، وبدأ يستعمل ما بحوزته من العلم ليشق بحار المجهول الطلسمية العميقة ..

كم هو كائن مثابر !!


وهنا لا أريد التوغل في أفرع الخوف المتشابكة (الفزع ، الهلع ، الرعب ، الارتياع ، الرهاب .. الخ) ، فالقائمة مفتوحة باتساع رهيب ولا يمكن حصرها ببساطة مهما بلغت درجة تخصصي ! إنما أردت هنا التكلم عن جزء يسير منه .. لنقل أنه مجرد (شيء من الخوف!) وليس الخوف كله ..


* * * * *


« كل منا له وحش معين يعبر عن خوفه !! » ..

في ثنايا العقل الباطن صور تقريبية ومبهمة لوحوش عديدة كنا نرهبها في طفولتنا !! فعندما أكتب أنا كلمة لها علاقة تخيلية مخيفة لطفولتك .. فأنت تتخيلها بطريقتك الخاصة حسب ما يمليه عليك عقلك الباطن .. مثلاً إذا قلت :

(أمنا الغولة)

ثق تماماً بأن مخاوف عديدة قد تكتلت عليك في طفولتك ثم اختزنت في عقلك الباطن وكونت لديك صورة مجسدة عن الخرافة المسماة (أمنا الغولة) !! فلا يعقل أن تتخيل (أمنا الغولة) على أنها (بيضاء البشرة – شقراء الشعر – زرقاء العينين – هيفاء القوام) .. بل هي مزيج من ألعن واقبح الذكريات المختزنة من رواسب طفولتنا المرعبة .. ولهذا السبب فإن كل شخص منا له وحشه الخاص في مخيلته .. سواء كان (أمنا الغولة) أو (أبو رجل مسلوخة) أو حتى (النداهة) .. كلها وحوش فردية وغير موحدة الهيئة ، تتكالب عليك لترضخ – أنت – تحت اسم الخوف !!

حاول أن تتذكر وحشاً ما أثار لديك مشاعر الخوف المبهمة ! ليس بالضرورة أن يكون بشع الخلقة أو وحش ذو أنياب ومخالب ، ربما كان هذا الوحش مجرد (وحش معنوي) ..

هل تستغرب من وصف (وحش معنوي) ؟؟

إذن دعني أعرفك على الوحش الخاص بي أنا ..

؟

هذا هو الوحش المرعب الخاص بي .. وقد جسدته لك في السطر السابق !!

نعم .. أنه علامة الاستفهام !!

هذا هو وحشي الخاص !!

هذا هو خلاصة مخاوفي المعنوية في الدنيا كلها !! هذه العلامة البسيطة ترمز – ببساطة – إلى كل مجهول في هذه الدنيا ..

أنها تبدو كالسور الفاصل بين المعرفة والجهل ..

فقبلها يكمن المنطق .. وبعدها تبدأ التساؤلات !

قبلها تربض الراحة .. وبعدها تركض الحيرة !

قبلها تحوي جملة من سطر واحد .. وبعدها تولد آلاف اللغات الغامضة ..


أقترب معي قليلاً إلى (الوحش) الخاص بي ..


* * * * *


الآن أنا في صحرائي الفكرية .. تائهاً وحائراً بالإضافة إلى كوني وحيداً فيها !! أنها صحراء من نوع خاص ، صحراء جدباء جرداء وقاسية .. صحراء صغيرة تحيط بها صحراء أكبر ! اللون الأصفر يفترش الأرض من حولي ، ولا لون مميز لسمائها !!

يملأني شعور الرهبة وأنا أركض هنا وهناك بلا هدف ! فهنا لا معنى لكلمة (أنحاء) أو حتى (رحاب) .. فكل مكان حولي يدعي (هنا) .. لا أسماء ولا عناوين !!

الرمال من حولي عبارة عن أفكار متناثرة .. ملايين وملايين من الأفكار تنتظرني في صبر وتؤدة ! بعضها نجحت في تشكيلها بطريقتي الخاصة سواء في حياتي الخاصة أو على مدونتي الشخصية !! أحياناً أبني من تلك الرمال قصوراً فكرية متفردة لمجرد المتعة ، ثم سرعان ما أحطمها عند أول شعور بالملل !!

من هنا .. ولأول مرة يظهر الوحش الغامض .. يقف في خيلاء وسط صحرائي ..

أذهب إليه خائفاً محاولاً استكشافه ..

أنه ضعف حجمي تقريباً ! وكلما اقتربت منه كلما ذاد حجمه ونما إلى عنان السماء !

ما هذا الوحش الغريب والمخيف !!

أطوف من حوله منبهر الأنفس ! لعلي أفلح في كبح جماحه اللامتناهي هذا !!

أطوف .. وأطوف في قهر .. أحياناً أسعى حوله وتسبقني دموعي .. وغالباً ما يحركني جنوني وطيشي !

« ما هي كينونتك أيها الوحش ! أما لك من نهاية لعليائك !! »

عبارة أتمتم بها في قنوط عندما يتملكني التعب والسأم !

أرددها في غضب هادر لكنه مستكين وبائس !


وأخيراً ..

أقترب منه في بأس عازماً على إنهاء أمره معي ، أو إنهاء أمري أنا معه !

أتسلقه في وهن ممضي ..

وأصل إلى حافته الزلقة في فرح .. متخذاً وقفة صامدة وأطلق صيحات النصر الغرير !

وعندما يشتد علي التعب .. فأني أهبط قليلاً إلى وسطه المنحني ..

أنظر نظرة أخيرة إلى السماء في نشوة عابرة ..

ثم أنام متكوراً متخذً وضعاً جنينياً وأنام في أحضان وحشي العزيز !


ذلك الوحش الذي جاءني مختفياً في علامة عادية ..

علامة (تعجب) أصابها الالتواء في نصفها الأعلى ! فتحورت ووصلت إلي بشكل علامة استفهام!

أنه وحش لا يمكن هزيمته طالما دارت العقول ..

أنه وحش جدير بإطاحة أي عقل حاول التمادي أكثر من اللازم منه !

أنه وحش يأتي إليك في لهفة جذلة طالما أنك نطقت بالكلمة السحرية والسرية لاستدعائه :

« لماذا ؟ » .


* * * * *


« القمع » ..

هذا ما تربينا عليه في طفولتنا العربية ..

قمع فكري من جميع النواحي الحياتية !

منها مثلاً القمع الديني !

فأحياناً قد تراودنا تصورات وتخيلات في مسائل الدين .. وبحكم كوننا أطفال ، فأنا لا نضع حداً معيناً لتفكيرنا .. أنه تفكير مطلق في أبسط صوره !! من حقنا أن نتخيل أي شيء .. وأياً كان !!

لكننا نصطدم أحياناً بتعنت الكبار وانغلاقهم .. فيتم إخراس هذه الأفكار في أدمغتنا الصغيرة توطئة لذبحها بلا شفقة .. أو حتى دفنها وهي حية في رؤوسنا ..

ومع الوقت تموت هذه التخيلات تماماً .. ويتم التمهيد لعقلية الطفل كي يتحول ويتحور وينضم إلى عقلية الكبار .. ويصبح واحداً منهم يشابههم في نفس العقلية وطريقة التفكير .. دون أن يكون له الحق في التفكر أو التدبر ..


بالنسبة إلى أنا .. تحول (الدين) إلى ديكتاتور مجرد وقاسي لا يقبل المناقشة إطلاقاً ..

ديكتاتور اختلطت فيه خزعبلات سخيفة وتعاليم هوجاء مع سماحته وسموه ! فكان الناتج طلاسم غير مقبولة إطلاقاً إلي ..

وكلما سألت :

« لماذا ؟ »

أو

« كيف؟ » .

كانت الإجابة المعهودة من الكبار :

« لا تسأل .. ولا تتساءل .. فقط أمتثل لما نقوله لك وما نمليه عليك » .

لحظتها كان الوحش (؟) يتمثل إلى من العدم ، وينظر إلي في سخرية واضحة وشامتة في نفس الوقت !


ثم بدأ القمع ينمو وينمو ..

حتى أحتل مجالات شتى في حياتي ..

العادات والتقاليد ، السياسة ، حرية التعبير ، الحرية الشخصية ..

وكلما كبرت في السن ، كلما كان علي أن أقدم قرباناً من حريتي تحت مذبح (القمع) ..

ودون أن أتسائل !


ومع الوقت .. بدأ وحشاً أخر يولد بداخلي !! وحشاً خلقه أفكاري ، وحرصت أن يكون ذلك الوحش مروضاً لإرادتي أنا !

وحشاً مستأنساً أعددته خصيصاً لمحاربة وحش أخر لا يرحم !

أنه :

(الغضب) .

عندها أعود مرة أخرى إلى صحرائي .. وأدق طبول الحرب أمام عدوي !

استعين بالغضب من أجل هزيمة المجهول القابع في وسط كياني الفكري !

الغضب !

عملاق أخر جدير بتحرير أفكاري الخاصة من تحت فلول ذلك الوحش القاسي !

معارك وصولات عنيفة تدور من أجل تحرير إجابات أسرت – قسراً – وراء هذا العدو !

أنا وحدي ..

والغضب حليفي ..

أمام العدو المجهول !

فمن سينتصر يا ترى ؟؟؟