18‏/9‏/2009

شيء من الغضب !


 

السأم ، الملل ، القنوط !

كلها كلمات تلخص شعوري أثناء وقوفي في منتصف أحد الطوابير الحكومية الطويلة انتظاراً لإنهاء بعض الأوراق السخيفة والروتينية القحة في حكومة بلدي المعقدة (الحكومة هي المعقدة وليست بلدي) !!

كل العوامل هنا تدفعني دفعاً للشعور بالإحباط العميق ..

فجدران المبنى لها لون غامق كئيب بسبب عوامل التعرية ، وأيضاً الحك الغير مبرر من أيادي مواطنين بلدي الأعزاء .. ولا أنسى ذكر منظر الأعمدة الخرسانية المشققة والمتهالكة كذلك والتي تنضح بكارثة هندسية قريبة !! لو كنت أقف داخل (صفيحة شحم) شبة فارغة لتفهمت الموقف ! لكني أقف هنا بداخل مبنى حكومي الهدف منه هو خدمة مواطنين مصر الأعزاء !


 

ألقي بعدها نظرة سريعة على وجوه الموظفين أنفسهم ..

يا للعجب .. الكآبة والغباء تمتزج معاً في تجانس فريد لتصنع لوحة واقعية لما سأواجهه عند التعامل مع هؤلاء البشر الغير اعتياديين بالمرة !

لو دققت النظر إليهم لوجدت رتوش مبهمة لختم النسر واضح الجناحين على جباههم ، ولكن من يريد التدقيق في وجوه هؤلاء؟

فلأنهي غايتي هنا ، ثم أنسف المكان نسفاً من ذاكرتي دون ندم !

من يريد الاحتفاظ بمشهد لـ (معبد البيروقراطية) هذا ؟


 

نظرة سريعة على أول الطابور ..

لا توجد مبررات متفائلة على قدوم دوري أنا في خلال النصف ساعة القادمة !

نظرة سريعة إلى عقارب ساعتي والتي بدأت في الشك في إصابتها بالعرج المباغت ! فهي – أي العقارب – تدور حول نفسها في بطء عجيب وكأن العدوى قد أصابتها من أطياف هذا المكان !

ترحمت في سري على روح الفقيد والعبقري (ألبرت أينشتاين) صاحب النظرية النسبية ، هنا أنسب مكان لإثبات نظريته المثيرة للجدل .. هنا الوقت يمر كأنه ألف سيف على ظهر المواطنين الأعزاء ! هنا الزمن يأخذ (قيلولة إجبارية) بجوار أحد الجدران العتيقة حتى تنتهي إجراءاتك بمعجزة ما ، ثم يسارع بالهرولة إليك ليعاود نهش ما تبقى من عمرك في صبر مجيد يليق بالزمن !!

لازال الطابور طويل ..

على الرغم من ذلك مازال لدي طاقة رهيبة من الصبر ، وقد حان وقت استخدامها !


 

* * * * *


 

الغضب ..

يجوز وصف الغضب عند أي إنسان بأنه مثل المارد الحبيس داخل قمقم سهل العثور عليه في أي مكان !

طالما وجدت العوامل الكافية لإثارة هذا القمقم فسيخرج المارد منه بكل يسر ..

الغضب هو مارد قبيح الشكل ، ولا توجد هيئة معينة تعبر عنه ! فهو يخرج في هيئة مختلفة في كل مرة يغادر قمقمه !

لكن على عكس الأساطير ، لا يحقق هذا المارد أمنية ما ، بل يسعى دائماً للكارثة محققة بأي شكل وبكل وسيلة أوتيت له ..

هناك بشر يضعفون ويرضخون لرغبات هذا المارد الأرعن وينساقون وراء أوامره بمنتهى السهولة والانقياد .. وهناك نوع أخر يحاربونه بكل بسالة ومثابرة ..

النوع الثاني قل وجودهم تدريجاً في هذا العالم بطريقة مثيرة للتساؤل ! على أي حال هؤلاء البشر هم من نطلق عليهم في ثقة : (أبطال) ، فهم أفلحوا في محاربة هذا المارد والانتصار عليه في معارك حامية الوطيس .

ولكن ..

إلى أي درجة يمكن لهؤلاء الأبطال الصمود أمام هذا المارد ؟

سؤال يطرح نفسه في قوة ، وفي انتظار تجارب الحياة لتجيب عليه ..

فهل ستجيب عليه يا ترى؟؟!


 

* * * * *


 

ثلاثة أشخاص – فقط – انهوا باقة من ألعن الإجراءات سخافة ، وها هم يغادرون الشباك والمبنى كله في سعادة غامرة وبادية على وجوهم ، ثمة نظرات حسد ملحوظة تلاحقهم من الواقفين في أخر الطابور !

وأنا صامد على حالي ، ولازلت أملك الرصيد الكافي من الصبر المتراكم لدي .

أحاول محاربة جيوش الملل التي تبغي اجتياحي بالنظر إلى أركان المبنى ، كأني أحاول – عبثاً – العثور على الزمن التائه مني في مكان ما في الأرجاء .. بعد محاولات شتى عرفت أنه لا فائدة من البحث ، فلأعاود النظر إلى الشباك راجياً أن تعمل الخلايا الرمادية للموظفين بهمة ونشاط ليوم واحد حتى .


 

دون إرادة مني تابعت عيني هذا المتسلل والذي يزحف بخفة ثعبان يافع ورشيق ليقف أمامي في الطابور !

ابتسمت لهذا المشهد العجيب .. فحال هذا الطابور شبيه بقطار طويل يسير بطريقة ما ، ومحاولته هذه أشبه من يحاول إضافة عربة أخرى في منتصف القطار أثناء سريانه ! محاولة توصف بالعبثية وإهدار للوقت المهدور أساساً.

لمحته وهو يقف في ثبات مثير للريبة أمامي أنا بالذات .. وقد ظن أنه أنتصر في احتلال مكانه بوضع "القدم" .

في موقف أخر لكنت صفقت بكلتا يداي إعجاباً بقدراته (الأستعباطية) ، لكن لسوء الحظ أنه يقف أمامي أنا .


 

رتبت على كتفه بحركة خفيفة استدار هو إلي على أثرها ..

من مجرد رؤيتي لنظرات عينه المتسائلة والمفاجئة ذاد إعجابي بقدراته اللامتناهية في (الاستعباط) ، ولو أن عيناه لا تخفي قدراً عظيماً من البلادة واللزاجة في آن واحد !! ولكن من أنا لأحكم عليه من خلال نظرة عين واحدة ؟ ومن هو لأضيع وقتي – الضائع أساساً – في محاولات للحكم عليه ؟!

قلت له وابتسامة خفيفة على وجهي :

  • حضرتك واقف في مكاني .

أصيب هو بحالة ذهول عميقة من جملتي !! لعله يحاول التفكير في كيفية وقوفه في مكاني في حال أنني أقف في مكاني أساساً في الطابور !! وقد عزز فكرتي هذه عندما قال في عفوية :

  • مكانك أزاي يا (باشا) .. ما أنت واقف أهو ؟!
  • أنا فعلاً واقف في الطابور ، بس أنت أخدت مكاني في الدور لو تاخد بالك .

لعله لم يتوقع ردي على سؤاله ،. ولم يحاول التفكير في مبرر مفحم لفعلته هذه ، فجاء رده ملفوفاً برداء يستعمله المصريين في كل لحظة بلا كلل :

  • معلش يا (باشا) .. أصلي مستعجل .

رغماً عني ذادت ابتسامتي أكثر من رده الثاني ، فقد كانت إجابته متوقعة بطريقة لم أتوقعها .. لذلك رددت بسرعة :

  • أولاً : أنا مش (باشا) .. ثانياً : كلنا هنا مستعجلين زيك .. بس النظام نظام !
  • نظام أيه بس يا (باشا) .. أنت واقف عند الحكومة .. صلي على النبي في قلبك .
  • طب معلش ، أنا مش حقدر أخليك تقف قدامي .. أنا صحيح واقف عند الحكومة ، بس ححاول أطبق النظام قدامي على الأقل .
  • عافية يعني ؟

باغتني أسلوبه في الحوار .. الحديث معه يتخذ منحنى غير مألوف لدي على الإطلاق !! ربما لهذا السبب تضرع عظيمنا (سقراط) لآلهته في أن تمنحه عقلان ، واحد يفكر به لنفسه ، والأخر يتعامل به مع الناس !

ابتسمت ببرود وأن أرد عليه قائلاً :

  • الموضوع مش مستاهل عافية ولا حاجة ، بعدين لو حنتكلم عن العافية ، أنت بنفسك عايز مكاني عافية .. تفتكر أنا حسمح لك ؟

عندما نطقت أخر عبارة في الجملة السابقة تعمدت أن أركز عيني في عينه بعمق .. وفوجئت بعيناه تحاول الهروب من حصار عيني .. وكان رد فعله أنه خرج من الصف وهو يتأفف ويغمغم بكلمات مبهمة سمعت منها :

  • يا فتاح يا عليم ، أيه اليوم اللي مش عايز يعدي ده ؟!

لم ألق بالاً بهذا الشخص بعدها ، فقد تركز انتباهي على أول الصف ومن ثم محاولة استنباط الوقت المتبقي لأصل إلى الشباك بعد رحلة من الواضح أنها شاقة وعسيرة !


 

* * * * *

الغضب مثل البحر ..

له مد وجذر !

وأمواج هادئة وأخرى هادرة !

هناك من يستطيع الإبحار في أعاتي الأمواج ولا يتأثر بالموج المجنون !

وهناك من يغرق بسهولة من أقل اهتزاز ..


 

الغضب مثل البحر ..

له بداية شاطئية رملية ..

ونهايته مجهولة مهماً بلغت حدة البصر !

يقال أن العقلاء دائماً ما يلتزمون بالشاطئ نائين بأنفسهم عن الخوض فيما لا يعرفونه !!

أما المتسرعين فيتوغلون في أعماق (بحر الغضب) دون التأكد من توافر سترات نجاه تقيهم من الغرق في بطن المجهول !


 

الغضب مثل البحر ..

فمن يستطيع أن يتخذ له صديق غادر؟!


 

* * * * *


 

  • يا أخي الشعب المصري ده عليه حاجات تغيظ .. شعب متخلف بعيد عنك !!

من دون جهد عقلي يذكر أدركت أن صاحب العبارة السابقة هو أخينا المتحذلق إياه .. وقد لاحظت أنه يقف على جانب الطابور الممل وليس في أخره ، واضح أنه مصمم على موقفه في (التناحة) .

أخينا بدأ – كالعادة – في الولولة بصوت مسموع لكي يكسب تعاطف وتأييد الواقفين من حوله .. كان عليه التأكد بأن أحداً لن يتحمس ويتأثر بقضيته ويعطيه مكانه في الدور ! لذلك بدأت حدة نبرته في التصاعد رويداً بدون أي تعاطف من الحضور ..

لدينا هنا في مصر سمة غريبة بعض الشيء !! كلما مر أحدنا بموقف مستفز فأنه يبادر بالهجوم على عادات الشعب بأكمله !! وكأن المتحدث من قارة أخرى ..

المربك في الموضوع أنني – نفسي – بدأت أحذو درب هذا المتحذلق في أهجو عاداتنا السخيفة ..

فلأنسى الموقف برمته .. فلا شيء يهم على أي حال !

كم تبقى لي يا ترى في هذا السجن الروتيني ؟؟!


 


* * * * *


 

الغضب ..

والحب ..

على الرغم من غرابة المقارنة بينهما .. إلا أنهما يشتركان في صفة واحدة مشتركة :

العمى ..

فالغضب أعمى ..

والحب أيضاً أعمى ..

إلا أن (عمى الحب) لشيء مقبول نوعاً ما في سلوكنا الإنساني المتلاطم!

و(عمى الغضب) مكروه العواقب دائماً ..


 

أحياناً يرحب بعضنا بالحب الأعمى ، ويستسلم كلياً لغزوه الحثيث علينا ..

جائز أن تكون نهايته سعادة .. وجائز أن تكون تعاسة مجردة ..


 

إنما .. الغضب ؟؟!

(تهور ورعونة وطيش وحماقة وسفه) ..

صفات تجتمع معاً لتحقق المعنى الكامل لنهاية مؤسفة دائماً ..

يقال أن (الغضب والحب) تجسداً في هيئة بشرية ، فألتف الناس نحو (الحب) يرحبون به ويهللون لوجوده ، و(الغضب) يقف وحيداً ويحتويه شعوراً عميقاً بالازدراء من الناس قاطبة ! فتحور إلى وحش كاسر وأتخذ من كيان (الحب) عدواً ، فذهب إليه ليبلغه بموعد للقتال حتى الموت ، فقال له (الحب) :

  • لكني لا أملك ما أحاربك به ، فكل أسلحتي عبارة عن : (سهاد وتنهدات وعواطف صادقة وأحاسيس جياشة) .. وأنت عبارة عن : (الحقد والكره والغل).. فكيف نتلاقى ؟!

فثار (الغضب) من كلام (الحب) فضربه في عينه فأضاع نورهما إلى الأبد ..

وهاج الناس وماجوا من فعلة (الغضب) ، فتكاتفوا عليه وفقأوا عينيه مثلما فعل هو (بالحب) ..

إلا أن (الغضب) همس في سعادة إلى (الحب) :

  • أرأيت ؟؟! لقد انتصرت أنا في النهاية .. لقد رسخت عقيدة (الغضب) من هذه اللحظة في عقول الناس إلى الأبد .. لقد أتممت رسالتي على الوجه الأكمل .. لقد ذهب بصري إلى الأبد ، وفي المقابل ضاعت بصيرة كل الناس بعدما تشبعوا بكل صفاتي ..


 

رد عليه (الحب) في هدوء :

  • قد يضيع بصيرة بعض الناس ، إلا أنني على ثقة بأن الناس سيأتون إلي أنا طلباً للمشاعر السامية .. سأكون ثالث العاشقين دوماً .. أنا أعمى .. ولكن المخلصين سيمسكون بيدي إلى نهاية الطريق، بينما سيهرول إليك كل الطائشين ويجرونك إلى طرق تتخللها حماقة وبؤس ودمار ! لست بحاجة لإعلان الفوز الآن !
  • نعم .. دعهم هم من يقررون .. دعهم يختارون بيني وبينك !

قد يكون (الغضب) وساوس هادرة تكتنفك ..

وقد يكون (الحب) همسات ناعمة تحيط بك ..

لكنك أنت من تختار حليفك .. وأيضاً عدوك .


 

* * * * *


 

  • وبعدين في اليوم اللي مش فايت ده ؟؟!

نعم .. لازال هو على موقفه .. سخيفاً ولزجاً كذباب الصيف . مزعجاً وأجش كصرصور الغيط !

أنهمك في إشعال (سيجارة) ، ثم سحب منها نفساً عميقاً وبصق على الأرض بعدها وقال :

  • عطلة على الفاضي وعلى المليان ، ناس مش فاهمة شغلها وبيتحكموا في الخلق كأننا أحنا اللي شغالين عن اللي خلفوهم !

هنا يتدخل أحد (المطيباتية) لتهدئة الرجل المعتوة بعدما تحول إلى صداع حقيقي في آذان الواقفين بلا استثناء .. ربما كان دوره في البداية مجرد استعراض مجاني يتابعه الحضور كنوع من كسر الملل والتسلية.. لكن مع الوقت تحول إلى اسطوانة سخيفة وباهتة تكرر نفس الكلمات بلا أي تجديد ..

  • بعدين هم جايبين (نسوان) يشتغلوا ليه ؟! هه؟؟ من قلة الرجالة في البلد دي؟! ليه مش قاعدين في بيوتهم ويريحونا منهم ؟؟ هي البلد دي ماشية بـ (*****) في كل حاجة كدة ؟!

النجوم ما بين القوسين هي بديل عامي فظ لكلمة (مؤخرتها أو ردفها) ..

هنا استدرت له وقد علا صوتي قائلاً :

  • ما تحترم ألفاظك يا (جدع) انت ، في ناس محترمة واقفة معاك هنا .. عيب الكلام اللي بتقوله ده ! عمال تجعجع من الصبح وأحنا ساكتين لك .. أحترم نفسك شوية ! بعدين ممنوع التدخين في الأماكن اللي زي دي .

بعدما نطقت أخر كلمة في جملتي السابقة ، أدركت أن هناك منحنى أخر للحوار سيحدث بعد قليل ..

ما الذي سيحدث يا ترى ؟


 

* * * * *


 

الغضب ..

والمنطق ..

حزمة واحدة متكاملة سريعة المفعول ..

لنقل أنها معادلة متساوية الأطراف ومتكافئة دوماً ..

المنطق هو مسكن قوي لأعراض (الغضب) المفاجئة .. وهو كفيل بإزالة أي جلطات تسببها أي نوبة (غضب) ..

أنزع (المنطق) من الواقع .. ستجد لديك (غضب) خام وعوامل كثيرة محفزة لانطلاقه بكل شراسة !!

كثيراً من الخلافات الشخصية في حياتنا يكون سببها (أنيميا في المنطق) .. وكثيراً ما تنتهي هذه الخلافات بعد تبادل قوي للمنطق ..

التفسير العقلاني هو وحده الذي يودي بالغضب المتراكم داخل كل فرد فينا ..

إلا أن المنطق سلاح ذو حدين ..

وكثيراً ما يستخدمه السفهاء نأنهأنلتبرير (الغضب) اللامعقول ..

هناك إذن (منطق موجب) وأخر (منطق سالب) ..

  • الأول شبيه بسحابة سخية جاهزة للإمطار على شعلة نار طفيفة وضعيفة ..
  • والثاني أشبه بالبنزين اللاهف على الانتشار بكثافة على نفس الشعلة ..


 

باستخدامك للمنطق المتوازن .. ما هي النتيجة في الحالة الأولى ؟؟!

وما هو الفرق بين ما سيحدث في الحالة الثانية ؟؟!


 

* * * * *


 

  • وأنا كنت بقول عليك (باشا) وطلعت أنت راجل مش محترم خالص ..
  • حقول لك تاني : أحترم ألفاظك أحسن لك .
  • مش بقولك ، واخد الدنيا عافية على الفاضي .. بعدين حتعمل أيه يعني ؟! شكلك (فرفور) وبتاع (بابا وماما) .. يعني أخرك حتنادي بتوع (السيكورتي) وتعيط لهم شوية وخلص الفيلم على كدة .. يا عم خليك في حالك أحسن لك بدل ما أعرفك شغلك كويس ..

قالها ودفعني في كتفي بغلظة أرتج على أثرها جسدي النحيل وتراجعت إلى الوراء مرغماً بسبب حركته الفجائية !

واستطعت أن ألمح نظرات شماتة غير مبررة من الواقفين حولي ، لكني لم أعيرها اهتماماً بالمرة .. لقد تركزت حواسي كلها على هذا الكيان المعتدي الماثل أمامي ..

اقتربت منه في هدوء ، وعلى وجهي ابتسامة وديعة وبريئة تماماً لا تناسب الموقف !!!.


 

* * * * *


 

الغضب ..

والخوف ..

يتشابهان كثيراً في بعض الأعراض الفسيولوجية ..

تسارع دقات القلب ، العرق البارد ، ضخ الأدرينالين في الدم ، بطء في الهضم ، خلل بسيط في الأعصاب ينتج عنه رعشة واضحة للعيان ..


 

الخوف يكون ناتج عن عدم تفسير المخ لمشهد مبهم أو موقف مرعب أو وسواس لا تفسير له !


 

أما الغضب فيكون المخ فيه مستثار لعوامل خارجية تسيطر على كافة وظائف المخ وتؤهله لاتخاذ قرارات عصبية غير محسوبة النتائج .

دائماً ينصح علماء النفس بتمارين بسيطة لدرء الغضب في حالات الشدة ، والغرض من هذه التمارين هي تشتيت انتباه المخ عن عوامل الإثارة هذه وتطلب منه التراخي لعودته لحالاته العقلانية لمعالجة هذه المدخلات الجديدة ، أي أنها تعيد المخ إلى كرسي عرشه في الدماغ من أجل استمرار عمله ووظيفته ..

مثل العد من 10 إلى 1 بطريقة هادئة ومصاحبة كل رقم بشهيق عميق وإخراجه من الأنف ببطء ..

أو مثلاً تخيل مشهد طبيعي خلاب في خيالك مع التركيز في أدق التفاصيل فيه !

أنها مجرد محاولات شرعية لقتل الغضب في بداياته قبل أن يتضخم ويستولى على كافة الإشارات الحسية المنبعثة من المخ . أي قبل أن تزداد الأمور تعقيداً .

السؤال الأخير هنا :

هل بإمكان كل فرد فينا على السيطرة على نفسه فعلياً على الرغم ما قالته كل الكتب النفسية الحالمة ؟؟!


 

* * * * *


 

صرت الآن أمامه حتى كاد وجهي يلامس وجهه ..

نظرات التحدي تنبعث من عينه بكل جلاء ..

وجهي لا يزال هادئ كما هو ..

وفجأة ..

انطلقت ركبتي اليمنى قاصدة ما بين فخذيه كأن ركبتي تعرف طريقها بعناية ودقة .. ولكي أكون صريحاً : لقد شعرت بخصيتيه وهي تلامس ركبتي قبل أن ترتطم بعظام حوضه ..

أعترف أنه شعور مؤلم يدركه كل رجل على هذا الكوكب ..

لم أتوقف كثيراً لأتأمل انحناءته للأمام كردة فعل عكسية تلقائية .. بل عاجلته بلكمة أخرى عمودية لأعلى على ذقنه .. عمودية وليست جانبية لأنه وقع على أثرها على ظهره .. وبالصدفة استقرت رأسه على (بصاقه) القذر المنظر ..

وبطرف حذائي ركلته بقوة في رأسه بغيظ ، تحديداً في أذنه ، لم أفكر في شناعة وبشاعة وألم هذه الركلة .. لكني فعلتها غير أسفاً عليها ..


 

تكاتف علي بعض من الواقفين وأمسكوني بقوة ليبعدوني عن الجسد الطريح والذي بدأ في النزف ، ثمة عبارات مألوفة سمعتها على الرغم من نوبتي هذه على غرار :

  • (خلاص يا باشا أنت الكبير) ، (هدي نفسك مش كدة) ، (عيل وغلط ، حقك عليا أنا) ..


 


 

في داخلي أنا كان يحدث تكاتف من نوع أخر ..

لقد حوصرت من شلالات (المنطق والواقعية والعقلانية) التي تؤنبني بعنف وبشدة ..

لقد كنت أنظر إلى الرجل الذي بدأ في تحسس مناطق آلامه على أنه هو المنتصر لا أنا !!

نعم .. لقد أنتصر هو علي للأسف وخسرت أنا معركتي أمام الغضب ..

ما أقسى أن تحكم على نفسك بالفشل عند مواجهة بسيطة مع الواقع ..

أزحت أيدي الناس من على صدري بهدوء ، وتراجعت للوراء قاصداً باب المبنى أبغي الرحيل بانكسار .. ورأيت بعين الخيال (جسد الغضب الأعمى) وهو يقوم برقصات النصر من حولي وهو يطلق صيحات الفوز ..

شعور حارق بالهزيمة يعتريني ..

أحاول الهروب من ظلي الذي يشدو بترانيم اللوم إلي ..

لقد فشلت ..

ويا لهول ما فشلت فيه ..


 

* * * * *

الغضب ..

الكثير قيل عنه ..

والأكثرهو ما لم يقال عنه بعد .