24‏/8‏/2010

حوار مع صديقي الــ .. (2)




كنت أنا وصديقي ..
والناس كثر حولنا ..
ولكن – وحده – كان الملل ثالثنا ..
كان صديقي يتسلى بمراقبة المارة من حولنا بملامح تنضح عليها القرف الغير مبرر !! من الصعب أن تنظر إلى المئات من الوجوه المكفهرة والبائسة حولك ، ثم ينتابك موجة حماسية فجائية تتخللها ملامح الأمل والنشوة كالتي تتسلل على وجه (أسامة ابن لادن) بعد انتهاءه من الاستمناء على وصف الحور العين !!
وبما أنني لم أخطط أن أصاب بالاكتئاب بالإضافة إلى الملل السائد ، قررت أن أستغل عقل صديقي الجامح في الخروج من هذا الملل الكئيب أو الكآبة المملة .. لذلك سألته في كياسة :
-         « ما هو أفضل حدث سعيد مر عليك في حياتك كلها ؟! »
انفرجت شفتا صديقي بعدما سمع سؤالي وقد أدرك القصد من وراءه ، لكن أدار رأسه بعيداً لتتركز عيناه – بقرف – على شاب ثلاثيني يمشي بتؤدة تملؤها العصبية وهو يتحدث في المحمول مصدراً صوتاً عالياً لا مبرر له !! وكان يؤكد – بصراخه – للطرف الأخر صدق نوياه في أن يخرج أموات والدة (أبن الكلب) الذي يدعى (عويس) !!
تابعت عينان صديقي هذا الشاب حتى مر من أمامنا ، وحتى بعد أننأأأااا تخطانا وأنا أتعجب أن هذا الشاب لم يحترق من لهيب نظرات صديقي التي اختصرت كل معان الاشمئزاز والاشمئناط  ..
قال صديقي فجأة وقد أدار وجهه مرة أخرى ناحيتي :
-         « أنني لم أولد وفي ثنايايا ما يسمى بـ (الكروموسوم الأرعن) . »
إجابة مباغتة لسؤالي تبشر بحديث طويل مع صديقي ..
ولكن .. أي (كروموسوم) يقصد صديقي ؟!
لذلك سألته :
-         « هل تقصد ( XX ) أم  ( XY )؟! »
-         « ( XX ) بالطبع !! أنه كابوس مجسد بدون مبالغة .. لعنة اللعنات باختصار مقتضب . »
-         « هل تعني أن حياتك كانت ستأخذ منحنى أخر مخالف لو ولدت أنثى ؟! «
قطب صديقي حاجباه بدون قصد منه ، ثم ركز بعيناه الحادتان إلى زاوية مجهولة لم تسجل بعد في العلوم الهندسية !! ثم قال بصوت عميق :
-         « هل بمقدورك أن تتخيلني وأنا فتاة حالمة في أولى سنوات الطفولة الواعية ، لا هم لي سوى أن ألهو لمجرد اللهو .. لا مشاكل حياتية من نوع معين .. فقط طفلة ذو ضفيرتين ولا شيء أخر .
ثم أتفاجأ – برعب – بإطلالة ضيف فسيولوجي دموي بعض الشيء ، لعله أول صدمة حقيقية وجادة في حياتي .. عندها تبدأ لحظات الحيرة والتيه ، أخجل من مجرد السؤال عما اعتراني .. إنها مشكلة سرية أنا فقط المسئول عنها في مجتمع لا يقبل مناقشة مثل هذه الأمور بأريحية أو بواقعية !!
عندها تحسب علي كل حركة وكل لفظ وكل تصرف أقوم به ..
كل ما خارج جلدي هو سجن .. وأنا نفسي مسجون داخل نفسي ..
الأمر صعب بدرجة مرعبة ..
ثم تبدأ هرموناتي في الجنون .. فيتكور نهداي .. ويلتف قوامي بامتشاق واضح !!
هنا يبدأ الجحيم الحقيقي ..
لك أنت تتخيل العيون الجائعة من الذكور التي تطاردني في كل مكان .. لا تطاردني لكوني أنا .. بل لأني أنثى !!
نظرات نهمة جائعة شرسة تنهش كل زاوية في الجسد الذي يحتويني ..
ومهما اكتسيت من ملابس ، فإن حيوانيتهم كفيلة بتجريدي من كل غطاء في مخيلتهم !!
الأمر مقزز أن تمشي بصورة طبيعية في أي مكان ، ثم تشعر بأن هناك من يراقب رجرجة نهدك ، أو حركة أردافك الترددية ..
الجميع يشتهون طعمك ..
الجميع يتوقون للتضاريس البضة المحشو بها جلدك ..
أنت قطعة لحم ، وهم قطيع من الجياع ..
حتى تحين المرحلة التالية ..
التأهيل الأيضي للقيام بدورك في الحياة ..
(ابن الحلال) يطرق الباب وعلى وجهه ابتسامة جذل ، ويراقب في خبث البضاعة قبل أن يدفع .. ويتخيلني كدمية جنسية ترضي رغباته وشهواته ..
عندها تتسع ابتسامته في رضا وهو يصرح بأن أهم شيء بالنسبة له هو الأخلاق .. فقط الأخلاق !
ولكي أثبت أخلاقي فعلاً .. علي أن أهديه ما يزيد عن ثلاث نقط دم أسكبهم على ملاءة لقاءنا المنتظر ..
عندها سيفرك شاربه في فخر .. ويقول جملة تحتوي كلمة (مدام) بين طياتها.. ثم يغط في نوم عميق يراوده أثناءه فخر أمجاد الذكورة ..
وعند صبيحة اليوم التالي تبدأ الأشغال الشاقة المنزلية ..
ولابد أن أحرص على أن لا تكون بضع حبيبات ملح سبباً في جدال على طاولة الغذاء ..
وأن أحرص على توافر جواربه في الركن الذي اعتاد أن يجدها فيها ..
وأن أستعد له في المساء بطريقة تثيره جسدياً ، ليكافئني هو بحركات رأسية من وسطه !
مهماً قال .. فهو على صواب ..
فكيف تنصف من هي تعيش بنصف عقل .. ونصف دين ؟!
كروموسوم واحد هو حد فاصل بين اللاشيء .. وكل شيء ..
وإنني لا أعرف إلى من أتوجه بالثناء لكوني ( XY ) متحكم ومتفرد بذاتي ..
لكنني أعتبره في صمت وسرية أعظم ما حدث لي طوال حياتي . »
لم أرد مباشرة على حوار صديقي ..
فرحت ببطء أعب صدري بدخان سيجارتي (والتي لم أدري متى أشعلتها!!) .. وأخذت أنفث سحبا بيضاء من فمي ، فتناثرت بعبث أمام وجهي !!
-         « كلامك يخترق قلب مشكلة .. والمشكلة تحولت إلى سور أقرب إلى قفص اتهام كبير يتوسط الذكر والأنثى .. كل منهما يشاهد الأخر وراء هذا القفص ، وكل منهما لا يعرف أي منهما الحر .. وأي منهم هو الحبيس !! الأنثى هي ضحية اجتراء مجتمع ذكوري قح .. والذكر يرفض الاعتراف بالواقع ، بل يعزز بالمزيد من الحبس والقهر والكبت والقمع .. لعل تخيلك وتفسيرك أوضح اعتزازك الواضح بجريمتك .. أنت ذكر أيضاً .. لابد أن عيونك طافت حول أطنان من النهود ، ورتبت بخبث حول الأرداف ، ولثمت بعفوية غريزية كل شفة أعجبتك وجه صاحبتها ..
هل أنت بالقتامة الكافية لكي لا تقر جريمتك ؟!  إن عذرك يتضاعف بمعرفة أبعاد جريمتك !! وكونك تعيش في مجتمع متناقض في كل شيء فهذا لا يعفيك من التنصل من جرمك ..
أنت محشو في قرطاس جلدي يسمح لك بارتكاب ما يحلو لك ..
هرموناتك وكروموسوماتك هذه اتخذتها سلاح تفتك بها – بلا رحمة – من لا يملكه ، وتهتك بها كل ما تطوله أطرافك الخمسة في فخر !!
وحينما أسألك عن أفضل حدث سعيد مر عليك ، فتكون إجابتك هي عدم كونك أنثى ؟! أي أنانية هذه التي انتابتك ؟! »
تنهد صديقي بمجرد انتهائي من ردي عليه ..
ومط شفتيه كعلامة مميزة لدخول حوارنا إلى منعطف خطير ومنحدر عميق ..
صديقي عليه أن يدافع عن رأيه بأسلوب مقنع ..
عليه أن يخرج من قفص الاتهام الذي أحاطته به عيناي ..
وأني لا أخفي لهفتي في سماع حجته هذه ..
لذلك قال بعد فترة لا بأس بها من التفكير العميق :
-         « أنا وأنت نعيش في مجتمع شرقي .. وكلمة (شرقي) هذه تخفي الكثير والكثير بين طياتها !! أنها اختصار قوي لجملة : (مجتمع ذكوري شمولي) .. كل شيء هنا لخدمة الذكر .. ذلك الكائن كثيف الشعر وخشن الصوت وكريه الرائحة !!
في هذا المجتمع – وحده – ينتشر مفهوم كلمة (الشرف) على أساس جنسي فقط ..
(شرف البنت مثل عود الكبريت) ، لذلك على البنت أن تتحمل عناء الحفاظ على شرفها المتمثل في غشاء بكارتها !! تخيل نفسك تعيش في حرب ضروس طوال حياتك من أجل أن لا تطولك الألسنة بكلمة تشكك في بنيان غشاء رقيق قد يتقطع أثناء القيام بركوب دراجة أو حركة عنيفة مفاجأة ؟!
أعرف صديقة لي صرحت لي إنها عاشت جحيماً لا يطاق في مراهقتها لمجرد أنها وجدت نقطة دم في غير أوانها .. كانت تبكي طوال الليل وقد تخيلت نظرات المحيطين بها وهي تتهمها بلا رحمة دون ذنب اقترفته هي .. ولم تسترح حتى ذهبت إلى طبيبة تؤكد لها سلامة بكاراتها .. هل تصورت ولو للحظة الجحيم الذي عاشت فيه هذه الفتاة ؟!

وماذا عن شرف الرجل ؟!
ما هو مفهوم الشرف عندك أنت أو عندي أنا ؟!
هل الشرف يتمثل في البطولة الحربية ؟!
هل نحن – الذكور – نعيش بلا شرف في السلام ؟!
هل للذكر عذرية في مجتمعنا ؟!
بالطبع لا ..
إذن الذكر هو كيان ظالم مطلق .. والأنثى مظلومة بقهر مطلق ..
أخبرني أنت يا ذا العقل المنطقي : هل تقبل أن تكون ظالم أم مظلوم ؟!
هل تقبل أن تعيش جلاد أم ضحية ؟!
هل تريد أن تصبح جاني أم مجرد مجني عليه ؟!
إجابتك ستحدد مصير باقي الحوار . »
صعقت جراء منطق صديقي المجرد ..
لقد جاءت الحقيقة في حورانا عارية ، فنفرنا منها بتأفف جلي ..
أنا وصديقي نفخر بكوننا ظالمين وجلادين وجناة .. هكذا بكل بساطة !!
لذلك قلت في حدة :
-         « ولكنه هروب .. بل هو الجبن بعينه .. حتى شرفنا الذكوري مشكوك فيه ! حتى ولو كانت الأنثى مظلومة ، فهذا لا يعطينا الحق في أن نفخر بجريمتنا .. »
-         « يا عزيزي .. لا تعاقبني على جريمة لم اقترفها ، أنه عيب المجتمع !! »
-         « الفرد وحدة بناء المجتمع ، وأنا وأنت هو هذا المجتمع .. فلا حجة لك ! »
-         « حسناً .. الفرد هو وحدة بناء المجتمع كما تقول ، ولكن .. هل هذا الفرد حر ؟! هل هو حر التفكير والعقيدة والعادات ؟! بالطبع لا .. بل تعامل كل فرد أمام الأخر يتوقف على عدة عوامل .. فحواري معك مثلاً سيختلف لو كنت أنت مسلم أو مسيحي أو يهودي أو حتى ملحد !! حواري سيختلف معك طبقاً لنزعاتك الثقافية واتجاهاتك السياسية مثلاً .. وكل هذه العوامل ليس باختيار حر منك ، بل هي موروثة سلفاً ويصعب تغيريها .. أنا صديقك الوحيد .. وأنت صديقي الوحيد .. لأننا نتشابه كثيراً في التفكير .. حاولنا تحطيم القيود المفروضة علينا .. نحن أحرار بصورة مصغرة !! ولكن .. نسبة كبيرة من المجتمع تظن الحرية هي الفجور والخلاعة والمجون في كل شيء بلا حساب !! لذلك ولد الخوف وانتشر بكثافة بيننا .. مجتمعنا هو مزيج مزعج بين الخوف والترقب والارتياع من ألسنة ونظرات الآخرين .. لذلك يحاول كل فرد إرضاء الآخرين على حسابه الشخصي !! ولهذا السبب انتشرت الكثير من العادات السخيفة التي لا هدف لها سوى التصنع ونشر الزيف ، ولهذا السبب انتشر التناقض الرهيب في مجتمعنا .. والكل يحاول التطبيق بصورة عمياء ولا معقولية .. أما القربان المفضل في هذه التضحية الجماعية فهي الأنثى وحدها .. سلبناها الكثير والكثير من حقوقها البسيطة .. لذلك الرعب – كل الرعب – أن يتصور أي رجلاً كونه امرأة .. صدقني أنه لن يصل بتفكيره نصف ما ذكرته لك في أول حديثنا !! لعل تصوري هذا وتوغلي في عالم المرأة هو سوط مؤلم أجلد به نفسي كمحاولة مني للتنصل مما يحدث في مجتمعنا !!
يقولون في أحد الأديان أن الملائكة بكت كثيراً من أجل تردي حال البشر البؤساء ، وتسبب هذا البكاء في هطول دموع الملائكة إلى البشر على هيئة أمطار ترويهم وتعينهم على بلائهم .. لذلك عرض عليهم إلههم تحوليهم إلى هيئات بشرية لكي يساندون البشر ويتعايشون معهم .. لكن جميع الملائكة رفضوا بكل إباء ..
نفس الوضع هنا .. فأنا لست بأفضل من الملائكة في هذه الديانة .. أنا لا أسعى لأن أكون أنثى أبداً .. »
أخرستني كلمات صديقي تماماً ..
وشردت للحظة وأنا أتخيل نفسي أنثى تمشي بين طيات شوارع مدينتنا .. حيث يتحول كل ظل من حولي إلى شبح مرعب يتبع خطوات ذكر أنيق الملبس .. ربما لحظتها أدركت حجم الجحيم الذي تكلم عنه صديقي ..
أشياء كثيرة كانت ستتغير في حياتي بسبب (كروموسوم) تافه لا يرى حتى بالعين المجردة !!
هل الإنسان كائن عشوائي المصير طالما تتحكم في حياته عوامل قهرية لا مناص من تغييرها ؟!
ولماذا ترتبط مفاهيم الأنوثة في مجتمعناً ارتباطاً وثيقاً بالجنس ؟! هل الأنثى هي مجرد أداة جنسية فعلاً ؟!
هل أجرؤ بالتصريح بأن الأنثى تتساوي مع الرجل حقاً ؟!
 ما هو حال المجتمع لو صرحت الأديان بأن المعبود هو مزيج ما بين الأنثى والذكر .. ويجوز إطلاق صفات التذكير والتأنيث عليه !! هل كانت ستتغير معاملة الأنثى حقاً ؟!
ما هي المعايير المطلوبة من أجل تغيير جاد لوضع الأنثى ككائن يأتي في المرتبة الثانية بعد الرجل ؟!
-         « ما هو معنى أسم (عويس) ؟! »
ابتسمت بعدما سمعت سؤال صديقي إلي ..
ولا أخفي أنه انتشلني – قاصداً – من تلابيب بحر هادر من الأسئلة التي لا إجابة لها ..
لنقل أني فضلت الفرار والهرب من هذه التساؤلات ..
المشكلة موجودة وواضحة .. لكن أين هو الحل ؟!
هل هناك حقاً حل ؟!
أم .. يبقى الوضع على ما هو عليه ؟!