17‏/5‏/2012

الخروج من الشرنقة .. (5)


ذهب واعظ إلى أحدى حانات البلدة الشهيرة بالمجون، وأخذ يصرخ في الحضور :
-         « توقفوا أيها العصاة ، كفوا عن فعل الخطيئة بلا مبالاة أو اكتراث لعقاب الرب ، فالويل لكم من انتقام الرب .. الويل لكم من نقمة الرب ..»
إلا أن أحداً من مرتادي الحانة لم يلتفت إلى ما يقول ..
فعزم الواعظ على معاودة الكرة مرة أخرى :
-         « أيها الحمقى ، لازال لديكم الفرصة لتفروا من براثن الشرور لتهنئوا بنعم الفردوس .. أخرجوا من هنا .. فقط أخرجوا بينما نعم الرب متاحة ..»
قاطعه مالك الحانة وساقيها في صرامة قائلاً :
-         « أنت هناك ، توقف .. ما هذه الحماقة التي تقوم بها هنا ؟! »
أنفعل الواعظ أكثر وأكثر وهو يخاطب الساقي:
-         « أنت؟! .. وهل تجرؤ على مخاطبتي يا رسول الخلاعة والفجور ؟!»
-         « تأدب أيها الرجل ، وكن جديراً برصانة ردائك الوقور .. ما الذي جاء بك إلى هنا ؟! »
-         « جئت كي أخلص هؤلاء الضحايا من شرورك أنت وسيد الظلام الأبدي .. أستاذك .»
-         « أي خرف تقوله أيها الرجل ؟! هل جئت إلينا من الحانة المجاورة بعدما بلغ السُكر غايته مع عقلك ؟!»
-         « بل جئت أقود خراف الرب الضالة إلى حدائق النعيم .. حيث من المفترض أن يرتعوا .»
-         « حسناَ .. أنا أتفهم موقف وهدفك .. لكن سلطة الرب انتهت عند باب هذه الحانة .. ولا سبيل لك مع هؤلاء القوم ها هنا .. أنهم لي وحدي .»
-         « ماذا تقول أيها المجدف ؟! كيف يجرؤ لسانك على التفوه بكل هذا الخرف عن الرب .. ألا تعلم من هو الرب ؟! »
-         « بل أنا أعلم من هو الرب أكثر منك ومن أمثالك .. وطيلة حياتي وأنا أدرك كل من جاء إلى هنا قد أتى باختياره وبإرادته .. لذلك لن تفلح محاولاتك في إخراجهم من هنا . »
-         « هذا لأنك تمنعني عن أداء واجبي نحوهم .. »
-         « حسناً .. تحدث معهم كيفما شئت ، وسأصمت أنا ريثما تنتهي من أداء " واجبك " هذا ..»
استغل الراهب الفرصة السانحة ، وهرول في لهفة إلى الجموع القابعة في الحانة ، وأخذ يتكلم بأسلوبه المعتاد مع الناس .. لكنهم كانوا سكارى هنا ، لذلك كان رد فعلهم الوحيد هو عدم الالتفات إلى ما يقول .. بعضهم تمادى وأخذ يضحك من كلام الواعظ في هيستيريا ..
هنا جن جنون الرجل .. وأخذ يكيل لهم اللكمات الحانقة ، والناس يضحكون أكثر وأكثر على ما يفعله ..
وعندما أدرك الواعظ عبثية محاولاته ، توجه إلى الرجل الوحيد الواعي في تلك الحانة : الساقي .. الذي قابله بابتسامة شامتة قائلاً:
-         « أرأيت ؟! »
-         « لكنهم دائماً ما يستمعون إلي كل صباح .. ما الذي يحدث إليهم في الليل ؟! »
-         « هناك فرق كبير ما بين الاستماع والإنصات ، لقد كانوا يستمعون إليك لكنهم لم ينصتوا .. ولم تشجعهم أنت يوماً على الإصغاء .. لقد حولهم أنت وأمثالك إلى دمى بعقول مؤقتة ، حالما يأتي الليل فأنهم يهرعون إلى حانتي هذه .. مجيئهم إلى هنا هو مقياس فادح على فشلك أنت .. بل تمادى بك الفشل وحاولت بحكم العادة الآن أن تتكلم مع أذانهم – كعادتك – بينما عقولهم تسبح في غياهب التيه .. أنهم ليس دمى أيها المسكين .. والدليل هو ثرائي أنا ونفوذي .. »
-         « إن كان الثراء غايتك ، فدعني أعقد معك بصفقة رابحة لي ولك .. سأعطيك الوفير من المال في مقابل أن تغلق حانتك هذه .. سأعرض عليك ضعف الثمن .. فما رأيك ؟!»
-         « لا تدع الحمق والغباء يركبانك أيها الرجل .. أموالك هذه مصدرها صناديق النذور ، وهؤلاء الناس هم من يقومون بدفعها في الصباح اعتباطاً .. فلا تحاول أن تخدعني بعرضك هذا .. وإلا لقمت أنا بخداعك واستثمرت هذا المال في افتتاح حانتين أخرتين.. لا تقم – أبداً – بدرء مشكلتك بمضاعفة حجمها ! »
أنهار الرجل على طاولة الشراب .. ولأول مرة في حياته الزاهدة يدرك فداحة وثقل عبء مهمته ..
ولأول مرة في حياته ينظر إلى مرتادي الحانة على أنهم ضحاياه هو ..
أرتجف الرجل من هول الفكرة ..
وخيل إليه أن باب الحانة هو منفذ لحصن منيع يصعب الخروج منه ..
نظر بانكسار إلى ساقي الحانة الذي انشغل بتجفيف الكؤوس بفوطة كانت موضوعة على كتفه ، وحينما تلاقت أعينهما .. انهمرت شلالات الشماتة من عين الساقي بما لم يقدر على مواجهتها ..
فانكب الواعظ على ركبتيه في وسط الحانة وأخذ يصلي في خنوع وضعف:
-         « أبانا الذي في السموات .. أمنحني القدرة كي أتحمل بلائي وهي نفسي .. من مأثمي أغسلني .. ومن خطيئتي طهرني .. من شرور نفسي أنقذني .. أنر طريقي واجعلني مرآة لنورك كي يراه من هنا .. فليتقدس اسمك ... »