10‏/9‏/2008

نصب من نوع أخر !


يُحبّذ إلي أثناء جلوسي في المترو بأن أمارس هوايتي المفضلة في هدوء !!

وهي هواية أمارسها – دائما – عند شعوري بالملل أو بالفراغ أو حتى بالاكتئاب !

ألا وهي:

(الشرود)

أنه يأخذني بين طياته إلى عالم خاص بي أنا فقط ، عالم خيالي جامح ولا حدود له .. عالم ينتظر أوامري أنا لكي ينشأ من العدم .. ثم يبقى متحفزاًَ في انتظار إشارتي لكي ينتحر في لحظات بعدما أنتهي أنا من شرودي هذا !!


كثيراً ما أوقعني هذا الشرود في مشاكل جمّة لا حصر لها .. أهمها أني أحياناً أشرد وتتجمد عيناي في اللامكان المرئي !!

فمن الجائز أن تتسمر عيناي على عين رجل يجلس أمامي وهو في استسلام متراخي !

أو قد تستقر عيناي دون قصد مني على صدر ناهد لفتاة جميلة !!

ولكم أن تتخيلوا كمّ النظرات التي تتماطر علي ظلماً عقاباً على تطفلي هذا الغير مقصود .. ومعهم حق في هذا !

بناءاً عليه عودت نفسي أن أشرد إما في سقف عربة المترو ، أو على أرضيته !!

أيضاً أحرص على عدم فتح أي حوارات مع جيراني في المترو .. فهم جيران مؤقتين ولن يجدي معي أي حوار يطرح في لحظات قليلة بغرض قتل الوقت أو تقليل الشعور بالمسافات بين المحطات !! هذا طبعي أنا .. وأنا أفخر به !!

حتى حدث ما حدث في أخر مرة ركبت فيها المترو !!


* * * * *


كالعادة أنا في المترو ..

أمارس شرودي الهادئ بنظرات شاخصة إلى أرضية المترو .. الأفكار تجري في سلاسة داخل مخي ولا تتأثر إطلاقاً باهتزازات المترو الأرعن والمتهرئ المفاصل كذلك ..

وإذا بي أعود إلى الواقع – إجبارياً – عن طريق شيء ما مجهول يلقى في صرامة على (حجري) .. فنظرت إلى هذا الشيء لأجده عبارة عن قطعة حلوى (بونبون نعناع بالتحديد!) .. فالتقطه من على حجري وأنا أرفع عيني في بطء وغضب صامت وأبحث عن مرتكب هذه الفعلة الشنيعة في حقي ..

من الحقير الذي جرؤ على مقاطعة وقتي الخاص بهذه الطريقة ؟؟

وتوجهت عيني إلى هذه السيدة التي ترتدي الشيء السخيف المسمى (نقاب) !! وكانت تنتقل بآلية جامدة من راكب إلى راكب أخر وتقذفهم بقنابلها (البونبونية) في قذف عشوائي غشيم ! إلى أن انتهت من أخر راكب .. ثم عادت بدورة عكسية لتجمع مرة أخرى ما ألقته منذ لحظات قليلة !

بعض الركاب تكرموا عليها بالمال على سبيل (الحسنة) .. والبعض الأخر أعاد لها ذخيرتها مرة أخرى كما هي ! بلا زيادة أو نقصان .

إلى أن جاء دوري أنا ..

أمسكت أنا قذيفتها الرديئة بأصبعي الإبهام والسبابة .. ونظرت إلى عينها بنظرة قرف عميقة المحتوى وبليغة المضمون .. وعقدت حاجباي إلى أقصى درجة ممكنة !!

لكنها لم تكترث لكل هذا .. وأخذت الحلوى من يدي بلامبالاة .. حتى أنها لم تراعي أن لا تتلامس أصابعي مع أصابعي أنا !!

لاحظت أيضاً أن ثمة طفل ينام في وداعة على كتفها !!

انتهى أمر هذه المرأة معي بعدما غادرت عربة المترو ومعها حصيلتها المشحوذة ..

وعدت مرة أخرى إلى شرودي والذي تركز هذه المرة على شيء واحد فقط :

هذه المرأة !


* * * * *


ما الذي قد يحدث إذا أعطيت هذه المرأة صدقة من باب الشفقة على حالها ؟؟

لا شيء .. فقط سأكون مغفل ساذج وضحية لهذه النصابة !

نصابة ؟؟

نعم نصابة ومحتالة كذلك !

فهي (نصابة) لأنها نصبت عدتها المتمثلة في (التسول) .. واستعانت بطفلها المسكين الذي لا ذنب له سوى أن هذه النصابة هي أمه ..

و (محتالة) لأنها تحايلت على مشاعر الناس واحتالت على ضمائرهم باسم (الصدقة) !


أيضاً هذه الوغدة تسلحت بمنتج تافه ورخيص لا يضر ولا ينفع ، أنه مجرد حلوى لا طعم لها ولا تغني من جوع .. منتج يباع في الأكشاك بمبلغ وقدره (خمسة قروش) لا غير ..

إذن هي تعتمد على تعاطف السذج والبلهاء منا !!

المصيبة الكبرى أن هذه النصابة القذرة لازالت شابة في مقتبل العمر .. عرفت هذا وقدرته عندما نظرت في عينيها من وراء النقاب!! أنهما عينان لأنثى شابة ولا جدال في هذا !!

هذه القذرة فضلت اللعب على أوتار عواطف البلهاء من مرتادي المترو بدلاً من أن تبحث لنفسها على وظيفة شريفة !!

أي وظيفة جديرة بأن تمحي منها عار التسول والنصب !!

أي وظيفة لا تستحق هذا المجهود الجبار الذي تبذله طوال اليوم في التنقل بين عربات المترو !

أي وظيفة والسلام !


أكثر ما أثار حنقي هو الطفل النائم على كتفها بكل وداعة ..

طفل مثله مثل أي طفل رضيع في سنه ..

طفل ذو قلب وعقل في نصاعة لون خلفية هذه المدونة !!


إلى أن ..

إلى أن يكبر ويترعرع في عالمنا !

فهذه القذرة ستهدي إلى مجتمعنا متسولاً جديداً أو مجرم أخر يعيش في بلدنا!

هذا الكيان النائم سيصحو يوما مكشراً عن أنيابه في شراسة ليبدأ انتقامه ضد المجتمع !

ولا أتوقع أبداً أن تخصص أمه وقتاً ما لتربية هذا الطفل الصغير .. بل ستتركه للظروف الصعبة المحيطة به لكي تقوم بتشكيل أخلاقه وسلوكه !


لحظتها فقط تمنيت أن أعطي هذه المرأة صدقة من نوع خاص !!

تمنيت أن أعطيها (واقي ذكري) !!

نعم .. واقي ذكري من النوع الجيد والمتماسك !!

فيمكنها – بهذه الطريقة – يمكنها ممارسة النصب نهاراً مع المغفلين والبلهاء ..

أما في الليل .. فيمكنها ممارسة الحب مع زوجها – أو أياً كان – دون أن يكون هناك توابع جنينية أو نواتج بشرية من هذا اللقاء !!

بسبب هذا الواقي:

  • لن نتحمل عبء يضاف إلى كاهلنا وعلينا أن نتحمله في صمت كأن لنا ذنب في ذلك الأمر !!
  • لن أجد طفلاً متسخ الثياب ينام على أحد الأرصفة بعمق شديد !! ليس حباً في الرصيف أو الهواء الطلق ، إنما لأنه ليس لديه أي مكان أخر يأويه غير الرصيف !!
  • سأكف عن محاولة صم آذني عند سماع بكاء أحدهم وهو يبكي بحرقة وذعر في الشارع !! وربما استطعت عدم سماع بكاءه !! لكن هل توقف بكاءه بالفعل ؟؟
  • لن أشعر بالذنب إذا ما أصابني الجوع فجأة وأنا في الشارع .. فأدخل يدي إلى جيبي العامر بالمال .. ثم أدخل بقدمي إلى أي مطعم .. وانتهت المشكلة بالنسبة إلي أنا .. لكن ماذا عنهم هم ؟؟ وماذا عن عيونهم الجائعة قبل بطونهم ؟؟
  • لن أضطر أن أخفي ضيقي عندما يتعرض إلي أحد هؤلاء الأطفال ويطلب مني بحرقة وسماجة أي شيء لله .. بالمناسبة : معظمهم يفعلونها من باب المضايقة أحياناً !!


هذه المرأة (المستهبلة) ليست إلا نموذج لتطور أيديولوجية التسول في القرن الحادي والعشرون !

بالطبع أنا لا أصب جام غضبي على شخصها أو حتى ظروفها .. بل أحنقني للغاية أسلوبها في النصب .. فإذا أرادت أن تستخف بعقلي وعواطفي ، فلتبتكر وسيلة أكثر ذكاءاً من مجرد (بونبون من أبو شلن يسقط على حجري)!!


* * * * *


لازلت في نفس المترو ..

بالتحديد بعد محطتين من وقت حدوث الوقعة السابقة !!

نفس المشهد يتكرر بحذافيره ..

إلا أن هذه المرة لم يتواجد الطفل أو البونبون !!

بل قامت امرأة أخرى ملثمة بتوزيع وريقات صغيرة على كل راكب يجلس على مقعد (ولم أدري الحكمة في عدم توزيع الورق على الواقفين) !!

قرأت الورقة بعناية .. وكان محتواها يقول باختصار :

زوجي في الإنعاش ويحتاج القيام بعملية (بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا)
.. ساعدوني يا أصحاب القلوب الرحيمة (بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا بلا) !

المثير للدهشة أن الورقة مكتوبة بالكمبيوتر .. وتم استنساخ عدة صور منها باستخدام ماكينة تصوير !! أي نصب ولامؤاخذة (ديجتال) !!

الأكثر غرابة أني صادفت هذا الموقف بعينه عدة مرات متباعدة.. وبسبب نقاب المرأة لم أعرف إن كانت هي التي أصادفها كل مرة ؟؟ أم هي مجرد زميلة أخرى تشاركها في نفس (السبّوبة) ؟؟

وما كان مني إلا أن قمت بنفس رد الفعل السابق مع النصابة الأخرى .. ولا أدري إن كان ينفعها (الواقي الذكري) في حالتها أم لا (باعتبار إن زوجها في الإنعاش إن كانت من الصادقين) !!


هناك شخص أعرفه جيداً قال يوماً :

وما المترو إلا مسرح كبير* !

فيا لعجب ما يحدث داخل كتلة الصفيح هذا !!


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أنا .

* * * * *


تتركز سيكولوجية التسول على فاعلية (البيع والشراء) ..

فالمتسول غالباً ما يكون مصاب بعاهة أو تشوه بشع (أعور ، أجدع ، كساح ، بتر ، عيب خلقي) .. ويعرض كل متسول ما أتيح له من عاهة أمامك (على عينك يا تاجر) .. وبمفهوم أخر أنه يبيع لك عاهته ويجعلك تقارن نفسك به لا إرادياً .. ثم تكتشف فجأة أنك تمتلك بداخلك (بضاعة) عالية المستوى ، ويعطيك شعوراً لحظياً بتمام عافيتك وصحتك ، وأنك أفضل من غيرك .. ثم تمتد يدك إلى محفظتك وتخرج منها ما استطعت من نقود وأنت في غاية التأثر .. وكلما زادت فداحة العاهة .. كلما زادت قيمة الحسنة أو الصدقة !!

هؤلاء القوم لن أتكلم عنهم بقسوة .. فهم – غالباً – لا ذنب فيما أصابهم !! إلا أنهم أحياناً يبالغون في عرض بضاعتهم بطريقة تثير الاشمئزاز لضعاف القلوب!!


* * * * *


بعض المتسولين حددوا (تسعيرة) موحدة ومعينة لقيمة الحسنة ! فإذا قدمت لهم صدقة أقل من هذه التسعيرة ، فلا بأس من سماع لعنات وسباب واتهامات لك بالبخل والشح والسحت والتقطير وأنك مجرد (أفندي جلدة) !

أما إذا نالت حسنتك رضاهم ، لك أن تعطر أذنيك بعميق الدعاوي لك والتي لن يخرج مضمونها عن : ربنا يعمر بيتك .. ربنا ينجح لك أولادك .. ألهي يبعد عنك ولاد الحرام .. ربنا يستر طريقك ..

وإذا لم تتواجد في أصبعك دبلة فضية أو ذهبية فيمكنني أن أضيف الدعوة المأثورة : ربنا يرزقك بــ (أبن / بنت) الحلال يا رب !


والمعروف عن المصريين بأنهم شعب طيب القلب .. ومعظمه يدفع للمتسولين باستمرار وسخاء ..

والطريف أن عدد المتسولين لا يقل أبداً .. بل يزداد باضطراد كل يوم !!

ولم نصادف متسول يوماً قرر اعتزال المهنة لأنه وصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي ..

ولا يوجد للمتسول سن معين للإحالة إلى المعاش .. بل هو متسول حتى النهاية .. وبنفس الاستماتة المألوفة !


التسول بأي شكل من الأشكال هو شيء مقزز ..

وأتمنى أن تصل ثقافتنا يوماً وترتقي لنعرف الفرق بين :

المتسول ، الفقير ، المسكين ، النصاب ، المحتاج !

بالمناسبة : الفرق كبير بين كل ما سبق!


وأكثر شخص يستحق صدقتك هو الشخص الذي تعف عليه نفسه لمد يده وسؤال الناس !


لذلك :

فكر جيداً قبل أن تدخل يدك في جيبك ..

ثم فكر وأنت تخرج يدك من جيبك :

هل يستحق (المتسول النصاب / المتسولة النصابة) نقودك ؟؟

أم يستحق (اللي بالي بالك) ؟؟