28‏/4‏/2010

الخروج من الشرنقة ..



 
تمكن فريق أبحاث في جامعة (ويلمور) الكندية من التوصل لاكتشاف مذهل في خواص أعضاء الجسم البشري ، فبعد تجارب طويلة استغرقت العامين تقريباً أثبتوا الفوائد العظمى لاستخدام اليد اليمنى في الحياة اليومية (وبالذات الأنشطة الحيوية الغذائية كالأكل والشرب) ..
وشرحوا باستفاضة الآثار السلبية المترتبة على استخدام اليد اليسرى والتي تصل لدرجات خطيرة ومميتة في بعض الأحيان !
فعندما يستخدم الإنسان يده اليسرى في تناول الطعام ، فأنه يضغط بدرجة مؤثرة على البطين الأيسر لعضلة القلب ، بينما تتزايد نسبة الخطورة بأثر رجعي مع الوقت وتؤثر بشكل مباشر على وظائف القلب فيما بعد مسببة أضرار خطيرة جداً لا يمكن علاجها إلا بزرع قلب صناعي .
أيضاً تؤثر هذه العادة بشكل بالغ في المجاري الهضمية وخاصة عند البلعوم الذي لا يكون في وضعه الصحيح عند ميل الرأس إلى الجانب الأيسر .. 19% من الأشخاص معرضون لخطر الاختناق الناتج من التهاب كلي ما بين المجرى البلعومي والمريء ..
أيضاً هناك خطر الإصابة بالهبوط الحاد في الدورة الدموية ..
أما أخطر الأعراض هي : تزايد معدل الإصابة بـ (متلازمة رونستيجفيلد) المميتة والتي لا توجد لها أعراض ثابتة في كل مرة ، وإن تشابهت في درجة الألم الشنيع .
أما الأضرار التي واجهت فريق البحث عند إجراء التجارب على اليد اليمنى فكانت معدومة تقريباً .. إذ أن اليد اليمنى بعيداً تماماً عن أي مسببات الخطر لكل الأعضاء الحيوية الهامة في جسم الإنسان .. كما أنهم اكتشفوا مقدرة التواصل ما بين اليد اليمنى والإشارات الحسية والعصبية والكهربائية الصادرة من المخ .. فاليد اليمنى قادرة على استقبال أوامر حركية من المخ تبلغ دقتها ¼ ملليمتر .. بينما لا تتجاوز اليد اليسرى نسبة ½3 ملليمتر .. والفرق بين النسبتين يوضح الترابط القوي ما بين المخ واليد اليمنى ..
لذلك يستخدم الإنسان يده اليمنى لتغطية أعضاءه الحيوية أكثر من اليسرى كإجراء وقائي غريزي لصد الخطر !
لذلك ينصح القائمون على البحث – بشدة – من الإكثار في الاستخدام اليد اليمنى عوضاً عن اليسرى في أغلب الأنشطة اليومية ..

 
* * * * *

 
أعرف ما الذي يدور في رأسك ..
توقف من فضلك ..
لا تدع الكلام السابق يلتحم مع أشقائه في خلايا عقلك ..
أطرده بقوة ..
فكل ما جاء في الفقرة الأولى كان محض هراء مني لا أكثر ..
فلا توجد جامعة في كندا اسمها (ويلمور) .. بل هو تحريف مشاغب لاسمي أنا: (وائل عمر) !!

وإن سولت لك نفسك على تصديق ما سبق ولو للحظة ، فأنت مجرد ساذج آخر ذو نوايا عقلانية منقادة .. تقودك أذنيك وعينيك .. أما الذي يقودهما فهو أفواه كبيرة استطاعت استشفاف قدرات عقلك وتحجيمه وسجنه ، ثم أسروه بين أسوار شفتيهم .. ثم حكموا على أمثالك بأن يصيروا مجرد (صدى صوت) لكلماتهم السخيفة !
الغريب أنك أنت وقرنائك عبارة عن جيش عرمرم لا يستهان به متحفز لأقصى درجة لمحاربة ظلال هلامية تكونت في الغسق .. وفي نفس الوقت ينتابك أحاسيس عظمى بأنك محارب قوي العريكة ومؤمن تماماً بما تفعله ..
والأغرب أنك قد تضحك إلى درجة (القهقهة) عند قراءتك لملحمة الأسباني العظيم (ميجيل دي سيرفانتس) والمتمثلة في البطل (دون كيخوت) الذي هم بمحاربة طواحين الهواء ظنا منه أنه العدو الغاشم ، ,وأنه يدافع عن القيم السامية للحب والعدالة !!
طواحين الهواء هنا قد تكون وهم على شاكلة (متلازمة رونستيجفيلد) السابق ذكرها في الفقرة الأولى !! وعلى الرغم من سخافة الاسم عوضاً عن نطقه .. إلا أن البعض سيصدقه ويهرع للتحذير منه عبر البريد الالكتروني لكل أصدقاءه ..
أما السبب الأساسي فهو :
إظهار الفوائد العظمى لاستخدام اليد اليمنى في الأكل والشرب (!!!!!2)× !!


 

* * * * *

 

قديماً كان هناك نوع متواضع من الطواحين إياها أنتشر في فترة الثمانينيات .. وكان عبارة عن ورقة يلقيها الحظ أمامك تقول :

وصية الرسول عليه السلام في منام الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أقسم أن الرسالة استقبلتها اليوم فأرجوا أن تقرؤوها كاملة وتعلموا ما بها ... هذه الوصية من المدينة المنورة من الشيخ أحمد إلى المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وإليكم الوصية يقول الشيخ أحمد : أنه كان في ليلة يقرأ فيها القرآن الكريم وهو في حرم المدينة الشريف ... وفي تلك الليلة غلبني النعاس ورأيت في منامي الرسول الكريم و أتى إليًّ وقال:- إنه قد مات في هذا الأسبوع 40 ألف على غير إيمانهم وأنهم ماتوا ميتة الجاهلية و أن النساء لا يطعن أزواجهنَّ ويظهرنَّ أمام الرجال بزينتهم من غير ستر ولا حجاب وعاريات الجسد ويخرجن من بيوتهن من غير علم أزواجهن ... وأن الأغنياء من الناس لا يؤدون الزكاة ولا يحجون إلى بيت الله الحرام ولا يساعدون الفقراء ولا ينهون عن المنكر وقال الرسول (ص): أبلغ الناس أن يوم القيامة قريب وقريباً ستظهر في السماء نجمة واضحة ... وتقترب الشمس من رؤوسكم قاب قوسين أو أدنى وبعد ذلك لا يقبل الله التوبة من أحد وستقفل أبواب السماء ... ويرفع القرآن من الأرض إلى السماء . ويقول الشيخ أحمد أنه قد قال له الرسول الكريم (ص) في منامه : أنه إذا قام أحد الناس بنشر هذه الوصية بين المسلمين فإنه سيحظى بشفاعتي يوم القيامة ويحصل على الخير الكثير والرزق الوفير ..... ومن اطلع عليها ولم يعطها اهتماماً بمعنى أن يقوم بتمزيقها أو إلقائها أو تجاهلها فقد أثم إثماً كبيراً ..... ومن اطلع عليها ولم ينشرها فإنه يرمى من رحمة الله يوم القيامة . ولهذا طلب مني المصطفى عليه الصلاة والسلام في المنام أن أبلغ أحد المسئولين من خدم الحرم الشريف أن القيامة قريبة فاستغفروا الله وتوبوا إليه. وحلمت يوم الاثنين أنه من قام بنشرها بثلاثين ورقة من هذه الوصية بين المسلمين فإن الله يزيل عنه الهم والغم ويوسع عليه رزقه ويحل له مشاكله ويرزقه خلال 40 يوماً تقريباً . وقد علمت أن:- احدهم قام بنشرها بثلاثين ورقة رزقه الله (( 25 ألفاً من المال)). كما قام شخص آخر بنشرها فرزقه الله تعالى 96 ألفاً من المال وأخبرت أن شخصاً كذًّب الوصية ففقد ولده في نفس اليوم ... وهذه معلومة لا شك فيها فآمنوا بالله واعملوا صالحاً حتى يوفقنا الله في آمالنا ويصلح لنا شأننا في الدنيا والآخرة ويرحمنا برحمته ... قال تعالى:' فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون '. الأعراف قال تعالى:' لهم البشرى في الدنيا والآخرة' يونس قال تعالى:' ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء '. إبراهيم علماً أن الأمر ليس لعباً ولهواً ... أن ترسل هذه الوصية بعد 96 ساعة من قراءتك لها... وسبق أن وصلت هذه الوصية أحد رجال الأعمال فوزعها فوراً ومن ثم جاء له خبر نجاح صفقته التجارية بتسعين ألف زيادة عما كان يتوقعه. كما وصلت أحد الأطباء فأهملها فلقي مصرعه في حادث سيارة فأصبح جثة هامدة تحدث عنها الجميع. وأغفلها أحد المقاولين فتوفى أبنه الكبير في بلد عربي شقيق . يرجى إرسال 25 نسخة منها ... وبشر المرسل بما يحصل له في اليوم الرابع وحيث أن الوصية مهمة للطواف حول العالم كله . فيجب إرسال نسخة متطابقة إلى أحد أصدقائك بعد أيام ستفاجئ بما سبق ذكره . فآمنوا بالله.
كنت أنا من البلهاء الذين صادفتهم هذه الورقة ، وكابدت العناء في كتابتها بخطي الشنيع خمس وعشرون مرة بالتمام والكمال !! فمن هو الأحمق الذي يقدر على مقاومة البركات المنتظرة ومجابهة اللعنات المتوعدة ؟!
لم أفكر وقتها .. فقط امتثلت وفعلت ..

وكتبت ووزعت ..

ثم انتظرت .. وانتظرت ..

وعلى عكس ما توقعت: لم يحدث شيء !!

بعدها بعدة سنوات جاءتني هذه الورقة مرة أخرى !! فتجاهلتها تماماً .. بل ألقيتها كما هي في أقرب (صفيحة زبالة) .. فلم يحدث شيء في المرة الأولى !! ولن يحدث في الثانية أيضاً .. هكذا أيقنت في مراهقتي .
ربما كان الشيخ أحمد ثقيل السمع في منامه ، فلم يسمع التعليمات جيداً !!

 
* * * * *

 
(أقسمت عليك بالعزيز الجبار أن ترسلها لكل الموجودين عندك ... الخ) ..

كلمة السر التي تحولك في لحظة إلى ببغاء دعائي في عصر الثورة الرقمية والاتصالاتية الحديثة ..
ستجدها مذيلة في آخر رسالة بعينها في بريدك الالكتروني تتكلم عن معجزة خزعبلية مهندمة ملفوفة برداء ديني أنيق ..
مزمار لاستعداء (دون كخيوت) المعاصر – الذي هو أنت – لأن يمتطي (الماوس) الخاص به ويذهب معه في مهمة الكترونية جديدة من أجل نشر أسس العدالة والحب المعدلة !!
الضحايا هنا كثيرون .. وطواحين الهواء جاءت بصورة مقدسة ..
ولكن ..
عندما يسخر منا المجتمع الدولي كتعليق عما يصدر منا بحكم غرابته بالنسبة إليهم ، فأننا نضيفهم إلى قائمة الطواحين الواجب علينا محاربتها .. ويصبح كل فرد فيهم عبارة عن (ذراع طاحونة) تحركها رياح الفساد ..
نحن نحارب رد الفعل .. ولا نستطيع مجابهة الرياح نفسها !!
ربما لأننا لا نتوغل جيداً في طبائع الرياح .. بل راقبنا في غضب ما تفعله الرياح ..
وعندما قالوا بأن :
« رفرفة جناح فراشة رقيقة في اليابان قد تساهم في إعصار عاتي في أمريكا .. »
كان رد فعلنا هو أننا شمرنا عن سواعدنا ، وأبرزنا أنيابنا .. ثم ذبحنا هذه الفراشة .. وصلبناها من أجنحتها .. ومثلنا بما تبقى منها لكي لا تحدث الإعصار المنتظر .. ووقفنا أمامها نضحك في شماتة .. وعلى ووجهنا علامات الانتصار .. أما في عقولنا فتكمن أسمى آيات الاقتدار ..
الفراشة هنا كانت ترمز إلى الفكرة ..
أي فكرة من حقها تولد في عقولنا .. وتتشرنق قليلاً في خلايا أمخاخنا الرمادية .. ثم تمر بطور البلوغ .. ثم تطير بعدها إلى خارج جماجمنا عن طريق ألسنتنا أو أصابعنا أو بأي طريقة أخرى ..
ولكن ..
نحن قوم لا نعشق الفراشات ..
ونحن من بنى للأفكار سجون ..
ونحن من أودع عقولنا رهينة عند الكهنة والدجالين ..
ونحن من سالت عند أقدام أجدادنا دماء الحرية ..
نحن العرب ..
وكفى به نعتاً .

 
* * * * *

 
منذ فترة قريبة جاءني إيميل يقول :
( الدعاء الذي يخاف منه الشيطان )
فقمت بفتحه على مضض لعلي أفلح بالخروج منه بفائدة عظمى في حياتي الشخصية .. من يدري ؟!
وكان المحتوى كالتالي :

اللهم انك سلطت علينا عدوا عليما بعيوبنا - يرانا هو وقبيلة من حيث لانراهم اللهم أيسه منا كما آيستـه من رحمتك وقنطه منا كما قنطـته من عـفوك - وباعــد بيننا وبينه كما باعـدت بينه وبين رحمتك وجنتك بسم الله الرحمن الرحيم لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم .

ملاحظة : اذا كان نشرها سيرهقك فلا تنشرها فلن تستحق اخذ ثوابها لأن ثوابها عظيم

 
بعد الانتهاء من القراءة نظرت إلى شاشة حاسوبي بعدم فهم .. وقمت – لا إرادياً – بحك خصيتي اليمنى بحركة عضدت عدم قدرتي على فهم طلاسم ما قرأت !!
فقمت بالقراءة مرة أخرى بتأني لعلي أفلح في فهم الغرض مما سبق !!
وقد خرجت بالآتي :


  • اللهم انك سلطت علينا عدوا عليما بعيوبنا (لا أعلم كيف ومتى حدث ذلك !!)



  • يرانا هو وقبيلة من حيث لا نراهم .. (قبيلة ؟! أي قبيلة ؟! هل المقصود هو: "قبيله" أي قوم من طرف الشيطان ؟! وكيف يرونا من حيث لا نراهم ؟! هل يراقبونا من ركن الشمال الجنوبي مثلاً ؟!)


  • اللهم أيسه منا كما آيستـه من رحمتك وقنطه منا كما قنطـته من عـفوك .. (أيسه ؟! لم أسمع مطلقاً عن الفعل الثلاثي "أيس" !! ولم أستخدمه بتاتاً سوى في لفظة " أيس كريم أو أيس تي " !! أما عن القنوط فهو الملل أو السأم .. أي أن الله سيصيب الشيطان بالملل منا .. كما أصيب الشيطان نفسه من الملل من عفو الله ؟! .. ما علينا ).


  • وباعــد بيننا وبينه كما باعـدت بينه وبين رحمتك وجنتك .. ( لو حدث هذا البعد السحيق ، فكيف يكون مسلطاً علينا من الأساس ؟! ) .


  • بسم الله الرحمن الرحيم لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم .. (عبارة دينية دسمة مضروبة في خلاط Mixer عملاق متمازج فيه التسول والفهلوة والمسكنة على الله .. نطلق على هذا الأسلوب بالعامية « العيار اللي مايصبيش ، يدوش » .. أسلوب مثير للدهشة فعلاً ! ) .


  • ملاحظة : اذا كان نشرها سيرهقك فلا تنشرها فلن تستحق اخذ ثوابها لأن ثوابها عظيم ( هل رأيتموه ؟! أنه الأصبع الأوسط إياه الذي تكلمت عنه من قبل !! العبارة السخيفة المملوءة بجميع مفردات الاستفزاز .. المزمار المكلف باستدعاء (كيخوت) العصري .. أسلوب النفسية المضادة يعتمد على كم الطمع الأعمى في الثواب الرخيص والكسول المتوافر لديك .. الجملة "الباعصة" لكل منطق عقلاني يمكن اللجوء إليه في الأحوال العادية .. هل لها علاقة بخصيتي اليمنى يا ترى ؟!)


هنا رفرفت فراشة في جنبات عقلي تنثر أعاصير فكرية رقيقة .. ورفرفت معها شقيقاتها اللاتي ولدن بسبب ما أصادفه من أمور حياتية شتى أقابلها في المجتمع العربي ..
لا سجون عندي .. وفراشاتي الفكرية حرة تماماً في الرفرفة والتحليق .. فلا سماء معروفة للفكر !!

 
كانت أهم الأسئلة :
  • ما هو مصدر هذه الأفكار العجيبة حولنا ؟! 
  • لماذا يصر بعض البلهاء في تمرير بلاهتهم إلى غيرهم من البلهاء ؟!
  • ما هي الفائدة المستفادة من هذا البله ؟!
  • هل العلاقة بيني وبين ( الله ) تتضمن نشر بضع كليمات وجمل مملوءة بصيغ دينية تافهة مرفوضة معنوياً ومنطقياً ؟!
  • هل سيكافئ ( الله ) من يساهم في نشر هذا الهراء حقاً ؟!
  • ما السبب في محدودية تفكيرنا وضحالة حضارتنا ؟!
  • ولماذا وضعنا ( الله ) في قوالب ضيقة الحجم بداخلنا .. فهو غاضب أشد الغضب حيناً .. وهو الغفور الرحيم الكريم حيناً أخر ؟! فأي ( الله ) نتوجه نحن يا ترى ؟!
  • لماذا يتعامل البعض مع الآخرين وكأن ( الله ) ملكية خالصة لهم .. فهم يثورون ويتوعدون ويخربون ويسبون ويبطشون كلما تكلم أحد عن ( الله ) .. بل كلما فكر أحد عن ( الله) .. فهل الحديث عن ( الله ) لا يجوز إلا عن طريقتهم فقط ؟!

 

 
والكثير والكثير من الأفكار التي أيقنت من عدم جدوى كتمانها بداخلي .. لذلك سأخرجها كلها في الموضوع القادم حرصاً على عدم الإطالة .

 
(يتبع) ..

21‏/4‏/2010

ما بعد (إثون) .. وأشياء أخرى لن تفهمها ..!



 
حيث مرقد الآلهة .. ومنبع الأقدار ..
وحيث تتساقط الحكمة والإلهام على عقول البشر منذ أن ولد الزمن على يد الربة (جايا) ، ويستمر العطاء إلى ما بعد أبد الأبد ..
فهنا تقف العظيمة (آورانيا) وقفتها الشماء وهي تحدق في الكرة الأرضية وعلى وجهها إمارات التفكير العميق .. وإليها تحج عقول الفلاسفة العظماء لكي يتوصلوا إلى الراحة من عذاب كلمة: " لماذا ؟! " التي لا ترحمهم !!
وهنا مضجع (كليو) ربة التاريخ المدللة ، تمنح البشر أكواباً زمنية ليملئوها بلحظات شتى تضاف إلى أعمارهم الفانية !!
وهنا ينحني الجميع في تقدير أمام (كاليوبي) كبيرة الربات وهي تنشد ملحمة أخرى من ملاحم الآلهة والبشر .. بينما يقاوم الجميع في أن لا يبكوا أمام عظمة إنشادها ودفء صوتها وبلاغة تعبيرها !!
وهنا تتوجه قلوب العشاق لكي ينصتوا إلى الربة (إيراتو) لكي ينهلوا منها قصائد الغزل وكلمات الغرام .. فلا عجب أنها أكثر من يقصدها البشر !! فهي هنا (عاصمة العشق) المعتمدة والمقدسة !!
وهنا يطوف المعذبون حول (ثاليا) ربة المرح لكي يمحوا تعاستهم وبؤسهم .. وتزرع هي على وجوههم ابتسامات عذبة من حكمتها الضاحكة الكفيلة بتساقط الهموم عند أقدام مريديها !!
(تيربيسكوري) .. التي يلقي عندها البشر آذانهم لتنشد فيها عذب الغناء .. أنه الإنشاد الرباني الكفيل بغسل الروح ذاتها من كل سوء ، وهنا يتعلم الجسد في أن يتحد مع الروح في رقص أشبه بالصلوات الخاشعة لرقي الإنسان !!
أنه الأوليمب أيها السادة ..
حيث لا تكفي الأرقام المعروفة لحصر جميع من هنا ..
وتعجز جميع اللغات لكي تصف كل من هنا ..
أنه الأوليمب وكفى به أسماً ..
الأوليمب هو المكان ..
والعظيم (زيوس) هو السيد هنا ..

 
ولكن .. أين هو (زيوس) الآن ؟!

 
* * * * *

 
في ساحة شرفته الكبيرة يجلس كبير الأرباب ليراقب شئون البشر في مهمة يومية تبدأ عند مطلع الشمس ، وتنتهي عندما يقود (أبوللو) عربة الشمس إلى الجانب المظلم لكي تستريح قليلاً هي ..
إنها وظيفة لا يقدر عليها سوى (زيوس) ..
فمن غيره يتحمل طبائع البشر الشاكية إلى الأبد ؟!
ها هو يجلس في وقاره المعتاد وهو يراقب بقعة معينة من الكوكب ..
ولكن .. مهلاً !!
لا يبدو على ملامحه أي وقار !!
بل هي ملامح جذل وترقب واضحين بجلاء ..
ما الذي يحدث ؟!
أممممم ..
كبير الآلهة يراقب أجمل العذراوات (تيونا) وهي تستحم في بحيرة (يوباليس) العطرة ..
إنه يراقب نهديها الصغيران وهما يفران من قبضة (تيونا) المبللة ويتقافزان في رشاقة غزلان تخلت عنها الجاذبية الأرضية ..
لطالما أعجب (زيوس) بحسن صنيعه لنهدي (تيونا) .. بل يتفاخر في نفسه بهذه التحفة الرائعة .. فهما أشبه بالمرمر البض .. منحوتين على صدرها كالصخر المطيع ..
نهدين متنافران إلى الأبد .. لكل منهما حلمة لها وجهتها المحددة ..
يتساقطان على صدرها كشلال لا ينوي أن ينضب يوماً ..
فيما بينهما تكمن لغز حضارة (ما بين النهدين) !!
(فينوس) نفسها والتي تتفاخر بأن شموخ وعظمة نهديها كفيلان بإرضاع القمر قد شعرت بأنها تملك نهدي ضفدعة تائهة في البراري مقارنة بنهد (تيونا) !!
بدأ (زيوس) في مداعبة لحيته العظيمة وعلى وجهه إمارات الاستمتاع وهو يخترق ببصره الجبال والصحارى ليركز أكثر على (تيونا) .. وبدأ يصدق أنه وضع أسرار الكون كلها في كل زاوية من زوايا هذا النهد الفاتن .. بل أن لون حلمتها الوردية هو لون متفرد بذاته ، انتهى وجوده إلى الأبد بعدما فرغ هو من تلوينه بفرشاته الإلهية ..

  • « قريباً ستنتهي أسطورة (أجمل العذراوات) .. زيوس قادم إليك ِ يا صغيرتي من أجل مهمة تحسين نسل البشر القبيح .. »
هكذا تكلم في ذاته العظمى ..
وهكذا خط القدر بفكرة منه ..
ودخل في نوبة أخرى في السباحة بعينه حول مدار النهدين الفاتنين ..
إلا أنه سمع صوت يقول في هلع :

  • « زيوس .. أحذر يا كبيرنا ! »
التفت إلى القادم والذي كان (هيرميس) وقال في عصبية واضحة :

  • « ماذا تريد أيها المزعج ؟! ألا تراني أعمل بتركيز ؟! »
ابتسم (هيرميس) بخبث للحظة وهو يتطلع إلى معالم وجه (زيوس) ، وسرعان ما عادت إليه عصبيته وهو يقول :

  • « ليكن .. ولكنها قادمة يا سيدي »
ارتعدت أوصال (زيوس) وهو يعدل من جلسته .. ويحاول أن يركز نظره إلى بقعة أخرى من الأرض ، ويحاول جدياً أن يستعيد ملامح وقاره المعروف .. وفي الوقت نفسه دخلت عليه زوجته (هيرا) في ثوب شفاف على شفا الاحتراق من فرط لهيب مفاتنها وجمالها .. ثم ألقت نظرة ساخرة على (هيرمس) .. ثم نظرة غاضبة أخرى على بعلها المتصابي ..

  • « تحياتي الخالدة على عاشق الأجساد الفانية ! «
بادلها (زيوس) بنظرة ساخطة تحمل البرود بين طياتها وقال :

  • « بل العظمة وحدها لعاشق الجمال في أبدع صوره .. أنا وحدي من أوجد الجمال الكامل .. والكمال الأجمل .. أنا الذي عند قدمه الحسن يركع .. وعلى يديه الفن يصنع .. وأمام هيبته الكل يخضع ..»
صفقت (هيرا) بيديها في حركة بطيئة كرد فعل على كلامه الغير متناسق بالمرة .. ونظرت له في تحد قائلة :

  • « ماذا فعلت هذه المرة يا بعلي وأخي العزيز ؟! لماذا وقف تابعك المدلل (هيرمس) على باب غرفتنا في ترقب ، وفر إليك عندما رآني ؟! «
أطرق (هيرمس) وجهه للأرض في حنق ، وهم (زيوس) بالرد على بجاحة زوجته المشاغبة ، لكن صوت ما أستحوذ على انتباهه .. فاستدار برأسه أولاً ، ثم بجسده مسترشداً بأذنيه ليتبع مصدر الصوت الغامض ..
فإذا به يرى جناحان عملاقان فوقه يتصاعد رفرفتاهما كدليل على اقتراب صاحبهما منه ..
في دهشة قال (زيوس) :

  • « ( إثون ) ؟! .. ولكن هذا مستحيل .. »
اقتربت منه زوجته ولامست ظهره بنهدها وهي تقول في أذنه بسخرية وشماتة :

  • « يبدو أن هناك بعض الأحداث أفلت زمامها من كبير الأرباب .. يبدو أنني وشك قضاء وقت ممتع بعد أن كانت نيتي هي تعكير صفو صباحك آيا زوجي العزيز. «
هبط الرخ (إثون) أخيراً على أرضية الشرفة الواسعة ..ثم انحنى برأسه لكي يقفز من فوقها شخص عاري تماماً ..

  • « (بروميثيوس) ؟! »
قالتها (هيرا) بشهقة افتتان واضحة وهي تتأمل قوام (بروميثيوس) كأنما أول مرة تراه فيها .. كانت الرغبة الجامحة تطل من عينها الخضراوان في أبلغ صورها ، بينما كان من المعروف عنها تأففها الواضح لكل كيان ذكوري بما فيه جسد كبير الأرباب (زيوس) نفسه !!

رمقها (زيوس) بنظرة غاضبة نتيجة رد فعلها .. لكن الدهشة ألجمته تماماً وتوجه كل تركيزه نحو القادم من الباب الخلفي للمجهول..
(بروميثيوس) ..!
وحاول التعليق بأي جملة يمكن قولها في هذه المناسبة التي لم ترد بين طيات القدر ذاته .. ولكنه شعر بأن حنجرته تم فصلها تماما عن جسده ..
في نفس الوقت اقتربت (هيرا) من (بروميثيوس) وملامح الفتنة الصارخة على وجهها .. وبدأت تتحسس صدره في استمتاع بالغ بكلتا يديها .. وهمست بصوت ممزوج بشبق مفاجئ :

  • « كيف تحولت إلى إلهاً للجمال فجأة ؟! وكيف صار جسدك ملحمة من الفتن التي يذوب فيها جسد وعقل كل أنثى فوق (الأوليمب) أو تحته ؟! إن (زيوس) ذاته لا يملك نصف جمالك وفتنتك .. كيف يا (بروميثيوس) ؟! «
هنا تنحنح (هيرمس) في محاولة لتشجيع (زيوس) ليفعل أي شيء تجاه ما يحدث هنا .. إلا أن كبير الأرباب مازال يبحث عما يلائم قوله في هذا الموقف الغريب ..
وفي نفس الوقت يرمقه (بروميثيوس) في ثبات وهو يرد على (هيرا) :

  • « عليك بتعليق زوجك مكبلاً بالغلال الحديدية بين جبلين ، وتركه هناك حتى يمل الزمن من المرور عليه بعجلاته .. عندها ستتحور عضلات زوجك إلى هذا الشكل .. صدقيني ، النتيجة مضمونة . «
نظرت (هيرا) إلى زوجها وهي تعض على شفتيها القرمزيتين وعيناها تقول بنشوة فادحة :
« ما رأيك ؟! »
إلا أن (زيوس) تمالك نفسه أخيراً وقال في غضب :

  • « ولكن .. عقابك مدته الأبد .. فكيف تمكنت من الفرار ؟؟ «

  • « بمساعدة صديقي (إثون) طبعاً .. كيف سأهرب بدونه في رأيك ؟! لقد وضعتني في سجن محكم .. وألقيت لي بالمفتاح دون قصد منك .. »
حول (زيوس) نظرته الغاضبة إلى الرخ الصامت والذي يقف في شموخ واضح أمامه ..
فتحول (إثون) فجأة إلى تمثال من الحجر الصلد ، وإن احتفظت عيناه بنفس النظرة المحدجة في ثبات إلى (زيوس) ..
فجأة تعالت أصوات عالية مبهمة أسفل جبل (الأوليمب) .. ولم تكن أعصاب (زيوس) تسمح باستشفاف سبب هذه الضوضاء .. فأشار لتابعه (هيرمس) للنزول ومعرفة ما يحدث من البشر بالأسفل ..
وما هي لحظات مرت حتى عاد (هيرميس) وهو يقول في انفعال :

  • « يبدو أن الفانون يتابعون ما يحدث هنا بطريقة مباشرة .. بل أنهم قاموا بصنع ملحمة خاصة بالرخ (إثون) تمدح أمجاده وشجاعته في مساعدة البطل (بروميثيوس) .. الوضع مقلق بحق يا كبير الأرباب ..

  • « ما الذي تقوله أيها المخرف الأبله ؟! أي ملحمة وأي بطل تتكلم عنه ؟! »

  • « (بروميثيوس) يا سيد (الأوليمب) .. (بروميثيوس) ومعه الرخ (إثون) تحولاً إلى بطلين عند البشر !! في الحقيقة الوضع متغير كثيراً بالأسفل !!»

  • « ماذا ؟! الويل لهم هؤلاء العصاة البلهاء .. أنهم يستحقون صعقاتي الرعدية عقاباً شديداً لهم , سيصرخون بلا رحمة وهم يحترقون كالدجاج المشوي .. عندها سيهرعون إلى معابدي لكي يتضرعوا لي وهم يقدمون القرابين .. ويطلبون الصفح على ما اقترفوه .. »

  • « صواعق ؟! سيدي .. لم تعد الصواعق تخيفهم ، فلديهم أعمدة حديدية تمنع عنهم صواعقك .. أنني أكرر مرة أخرى : الوضع متغير كثيراً بالأسفل !! »
قبل أن يرد (زيوس) بمزيد من الغضب .. بادر (بروميثيوس) بالتدخل شارحاً الأمر أمام كبير الأرباب الحائر :

  • « (زيوس) .. ألم تفهم بعد ؟! حتى أنا عرفت الكثير عن البشر أثناء رحلتي إلى هنا .. يبدو أنك تحولت لإله كسول ، وانشغلت عن مراقبة البشر .. فلم تقدر على متابعة ما يحدث ..»

  • « وهل تظن نفسك أنك أعلم بصنعي مني أنا أيها الأحمق ؟! أنا أجدر من يقرر .. أنا رأس الحكمة .. وعيون القدر .. »

  • « وهل أدركت رأس الحكمة وعيون القدر شيئاً ما عن سر نهد (تيونا) الذي خلب قلبك ؟! »
ارتعد (زيوس) من جملة (بروميثيوس) المباغتة ، وتركت (هيرا) انشغالها بجسد (الملعون العائد) وركزت أكثر فيما يحدث الآن .. فقلما رأت زوجها بهذه العصبية والدهشة من قبل .. فهو معروف عنه الغرور الذي لا حد له ، وها هو ذا غروره يرتعد وراء ملامح وجهه التي حاول أن يجعلها ثابتة بجهد واضح !! بينما أطرق (هيرميس) رأسه في الأرض بعد أن عرف كل شيء أثناء جولته السريعة إلى أسفل جبال (الأوليمب) ..
كسر الصمت صوت (زيوس) المترقب وهو يقول :

  • « وماذا عن (تيونا) ؟! »
أطلق (بروميثيوس) ضحكة ساخرة وهو يجيب :

  • « (تيونا) هذه ليس إلا فزاعة حقل أو (خيال مآتة) صنعها البشر لكي يتقوا شرور زياراتك إلى عالمهم والتطفل على بناتهم جنسياً .. (تيونا) ليست إلا دمية متحركة ألقوا بها أمامك لكي يشغلوك عنهم ، بينما ابتلع (كبير الأرباب) الطعم وتابع في شغف قوامها الفاتن ، وشرد كثيراً في سحر النهدين الجميلين .. يبدو أن البشر ذو قدرات عالية في التدبر والوقاية .. لقد صدق ظني بهم .»

  • « هؤلاء الأوغاد .. أنا لا أصدق !! ولكن كيف ؟! البشر دأبهم الخنوع والخوف والجبن ، لذلك كانوا يهرعون إلى معابدي في فزع كلما شح المطر أو اهتزت الأرض من تحتهم كعلامات على سخطي وغضبي عليهم .. كيف تناسوا كل ذلك ؟! »

  • « .. السر يكمن في النار .. وحدها النار .»

  • « ماذا تقصد ؟؟ هل تلمح بأن أحرقهم عن بكرة أبيهم ؟! »

  • « بالطبع لا .. ولن يجدي هذا معهم بالمناسبة .. ولكن النار هي سر تقدمهم .. عندما قدمت لهم قبس النار كهدية من جبل (الأوليمب) استطاعوا بذكائهم استغلاله وتطوير استخدامه .. النار هي السبب الأساسي في العلم والمعرفة يا (زيوس) .. كل شيء بدأ من قبس نار .. بينما انشغلت أنت بمطاردة ( أجينا ، إلكترا ، إلارا ، هيماليا ، أنتيوبي ، ألكامين ، نيوبي ، بيارا ، كاليستو .. والكثير والكثير من نساء البشر) وقمت باغتصابهن في نزوات دنيئة لا تليق بعظيم الآلهة .. لذلك قرر البشر الثورة عليك .. توقع هزيمتك أمامهم يا (زيوس) .. »
تغيرت نبرة (زيوس) إلى الغضب الهادر فجأة وهو يقول :

  • « هزيمتي أنا ؟! أنا أعظم الخالدين .. أنا (زيوس) .. قاهر (التيتان) ومحطم أسطورة الرب الأول أبي (كرونوس) ، يهزمني بضع من الفانون ؟! أي جنون تفوه به فمك يا (بروميثيوس) ؟! أنا وحدي من يقرر الأقدار والمصائر .. »

  • « ولكنك سهوت عن وضع قدر لنفسك .»
فوجئ (زيوس) بالرد ، وفطن أنه يدرك هذه الحقيقة لأول مرة !!
بالفعل لا يوجد قدر معروف له ، فغروره الواضح مهد له بالظن أنه أكبر من أن يحتويه المكان والزمان .. وهما الشرطان اللازمان لمد قضبان القدر أمامه !!
لوهلة شعر بالخوف المحدق ، وبدأ عقله يدخل في تيه لانهائي يليق بكبير الأرباب ..
وفي نفس الوقت لمس الخوف من رفيقة حياته المشاغبة (هيرا) .. لقد تخلت هي الأخرى عن غطرستها المعروفة ، وغزت معالم الهلع على وجهها الفاتن .. أليست هي شريكة زوجها في الحكم ؟! كم بدت الآن مثل الطفل المذعور الذي ينتظر عقاب ما بدون ذنب اقترفه ، على الرغم من كم المؤامرات التي كادتها للنيل من الجنس الفاني بشهوات انتقامية أحياناً ، وطلباً للتسلية وتزجية بعض الوقت في أحيان أخرى !! كم هو غريب أمر كبيرة الربات !!
أما (هيرميس) فكاد أن يلطم خديه حرفياً كلما تذكر هول اللحظات القادمة ، فهو أكثر رواد (الأوليمب) تعاملاً مع البشر .. وهو من حضر ولادة جنسهم على الأرض ، وكيف كانوا خائفين مذعورين في أول حقب عصورهم .. وقتها كانت السيطرة عليهم هينة من سادة (الأوليمب) ، فكانوا ينفذون التعليمات الإلهية بطاعة عمياء لا نشوز فيها .. حتى مكائد السادة ومزاحهم فيما بينهم كانوا يعتبرونها أوامر صريحة واجبة التنفيذ بلا مناقشة ..
حتى بدءوا في استخدام عقولهم .. وعرفوا طرق أخرى للعيش بدون الاحتياج للسادة في العلياء ..
الإنسان بالنسبة لهم كان مجرد وحش أليف ومطيع يعيش في قضبان عقيدة (الأوليمب) .. وقد تحرر بواسطة عقله من السجن المفروض عليه .. فيالهول انتقامه !!
قطعت كلمات (بروميثيوس) جدران الصمت التي حوت المكان منذ برهة من الوقت وهو يقول :

  • « أنهم في الطريق يا (زيوس) .. أنهم قادمون وفي قلوبهم رغبات قوية للثأر منك ومن حاشيتك .. أنا أكثر إدراكاً منك بهم ، فأنا من ساعدتك في صنعهم .. لكنني تميزت عنك في الاقتراب منهم أكثر وفهم طباعهم .. بينما تعاملت أنت معهم على أنهم دمية مسلية أصابتك بالقنوط بعد فترة من الزمن .. ربما من الأفضل أن تذهب بعيداً الآن .. وتنشئ عالم آخر من جديد .. وعليك أن تتقي أخطاءك هنا .. عليك أن تتعلم فهم صنعك جيداً ، لا أن تتعالى عليهم وتعاملهم بحماقة وغضب مشوب بالاستخفاف منهم .. دعني أصارحك القول بأن نيتي كانت الانتقام لما فعلته معي أنا والرخ الخالد (إثون) .. ولكنك تحولت إلى إله حائر في نظري أنا ، ولا أخفي شعوري بالشفقة تجاهك .. »
ابتسم (زيوس) فجأة بابتسامة لا تليق – أبداً – بالموقف الدائر الآن .. وقال وعلى وجهه المسن علامات الخبث الواضحة :

  • (بروميثيوس) .. يا سليل (التيتان) .. لم تغير العقوبة من طباعك المندفعة .. بل لازلت أنت كما أنت .. (بروميثيوس) الثائر المائل للبشر أكثر من السادة .. هل تظنني – حقاً – أخشى ثورة الأرضيون علي ؟! بالطبع لا .. فاللحظات القادمة ستحمل متعة لا تخلو من التسلية بالنسبة لي ، ربما ستكون أسعد اللحظات طراً في حياتي الخالدة .. إن كنت أنا عديم القدر كما وصفتني أنت ، فهذا ما يزيد تشويق اللعبة .. تخيل النصر المحسوم لي بغض النظر عن وقع المعركة بيني وبينهم .. حتى مع امتلاكهم النار التي سرقتها أنت منا .. والتي هي المعرفة .. سيظل البشر بلهاء حائرين عاجزين .. أنهم لا شيء بدوني يا عزيزي (بروميثيوس) .. أنهم لا شيء .. وتأكد أنهم في احتياج بالغ لي وللخوف مني .. حتى وإن توصلوا لعدم ملائمة وجودي في عصورهم المتقدمة .. فأنا كما أنا .. صانعهم الأوحد ، وأكثر من يدرك طباعهم المتشتتة دوماً .. لقد صنعت الإنسان ضعيفاً .. وصفة الضعف لن تزول عنه مهما امتلك من معرفة .. بل هي حاسة تلازمه طوال بقائه على الأرض ، وحتى منذ أن كان عقله مجرد صفحة بيضاء كان يدرك معنى الخوف وقيمة الملاذ .. لو كانت الأمور تسير حسب وجهة نظرك ومفهومك يا (بروميثيوس) لما هرع الطفل باكياً إلى حضن أمه بعد أن ضربته ضرباً مبرحاً ، فهو يشكي إليها بلغة الدموع ويحاول أن يعبر لها عن مدى ظلمها حسبما يتصور هو ، وفي نفس الوقت يقترب أكثر من المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان وانعدام الخوف .. حضن أمه !! علاقة غامضة يا (بروميثيوس) أليس كذلك ؟! ألم تفكر يوماً واحداً أثناء عقوبتك وتحاول (فلسفة الأمور) مثلما يفعل البشر ؟!
    كلا بالطبع ..
    لقد أضافت إليك العقوبة غضباً أعمى وحماقة عظمى ..
    وجئت بنفسك إلى كبير أربابك وفي نيتك الانتقام بقسوة وبسخرية أيضاً ..
    لا تظن أنني إله ساذج حسبما يتصور عقلك الأعمى .. فكل كبيرة وصغيرة تدور هنا وبالأسفل تم التدبير لها بعناية خاصة مني ، حتى تدخلاتي في نسل البشر كانت لهدف محدد ، وبدونها ما جاء معادل (أوليمبي) للشر المتوالد في الأرض .. تخيل ما يمكن حدوثه بدون وجود أبني (هيركليس) مثلاً .. كم من البشر سيموت على يد (الهيدرا) والتي هي رمز واضح للشرور والخطايا العديدة المتوالدة من خطيئة واحدة هينة ، أو حتى الأسد (النيماني) المهيب والذي بدوره يرمز إلى مجابهة الخوف حتى ولو كان مهاباً بدلاً من الهروب بمهانة بمجرد سماع زئيره الهادر ..
    أما عن الفاتنة (تيونا) .. فأنا من أوحى للبشر أن يصنعوها لأسباب خاصة بي .. ولن يهمك أن تعرفها – مطلقاً – طالما بصيرتك محدودة يا (بروميثيوس) .
أنسدل رداء الصمت على أفواه الثلاثة الحضور وإن اختلفت التعابير على الوجه تماماً ..
(هيرا) كانت تقف باحترام تبجيلاً لعبقرية زوجها والتي عرفت الكثير عنها في هذه اللحظة ، بينما اعتبرته في السابق مجرد (عجوز متصابي) يهوى اللعب والعبث في أقدار البشر .. ودار بخاطرها إنها لم تقترب منه يوماً بالقدر الكافي لتفهم قدراته الفذة ..
(هيرميس) كان يشعر بالراحة بسبب إزاحة أسرار شتى عن كاهله ، فكثيراً ما عايره الأولمبيون والبشر بأنه (قواد كبير الأرباب) ، بينما هو وحده من يعرف الأسباب .. ولكن بحكم مكانته عند (زيوس) تحمل كثيراً ولم يضيق ذرعاً بما يقال عنه .. وها هي الحقائق تتساقط بسخاء مثل الورق الجاف من شجرة المعرفة – (زيوس) – في خريف الحقيقة !!
أما (بروميثيوس) فأصيب بالحيرة الداهمة والقلق العارم .. فلسان (زيوس) نطق بما لا يتوقعه على الإطلاق ، بل غير جميع حساباته كلياً .. وأصاب رغبة الانتقام لديه بالتشتت بطريقة غير متوقعة !!

  • « طالماً أنك على دراية بكل شيء ، فلماذا عاقبتني إذن على إهداء النار للبشر ؟! »
قالها (بروميثيوس) على سبيل الأمل في اكتساب تعاطف (زيوس) لعله يتفهم موقفه .
إلا أن (زيوس) قال بهدوء وقور :

  • « النار كانت جزء مقدر في تاريخ البشر ، فهي أحد أعمدة الحضارة كما تعرف بالطبع ، ولكن .. الإنسان لم يكن مستعداً لفهم فوائدها في هذا الوقت .. الوضع أشبه بإعطاء طفل رضيع سكيناً لكي يلهو به .. الكثير من الشرور ولدت بسبب وجود النار يا (بروميثيوس) .. يجب أن ينضج عقل الإنسان أولاً لكي يستوعب المعرفة أو النار .. ولأن الإنسان وقتها لم يكن بالقدرة الفكرية الكافية فقد فسر الأمر على أنه أنانية مني أنا لكي أحتفظ بسر النار لي وحدي .. هكذا تربى الإنسان على كره (زيوس العظيم) بدلاً من تبجيله .. وكله بسبب تدخلك أنت .. برغم أن تدخلك كان مقدراً منذ البداية .. وأيضاً عقابك عن طريق العزيز (إثون) والذي انتهت مهمته بمجرد حضورك هنا . »

  • « اللعنة يا (زيوس) .. أنا لا أفهم شيئاً .. »

  • « لست بحاجة لأن تفهم يا (بروميثيوس) ..
    والآن .. هل أنت مستعد للجزء الثاني من عقابك ؟! »

  • « ماذا ؟! وهل عقابي بالنسبة لك عبارة عن حلقات ترفيهية مسلسلة ؟! »

  • « أمممم .. إلى حد ما .. أما الآن فعليك أن تتأهب لمقابلة (باندورا) .. »
شهقت (هيرا) بشفقة واضحة عندما سمعت الاسم .. ونظرت إلى (بروميثيوس) وكأنها تنعيه على مصيبته القادمة ..
(باندورا) هي نموذج الأنثى الأول الذي أمر (زيوس) بصنعه لتكون رفيقة للرجل ، وقد برع فعلاً في إنشاءها من الماء والطين .. ثم أنعم عليها بالجمال الباهر والدلال الساحر ، وجزء يسير من المكر والدهاء .. وقد أجل (زيوس) ظهورها على الأرض لحين ظهور من يظن نفسه بالكفاءة الكافية للحفاظ عليها والسيطرة على قدراتها الجامحة ..
بينما (لفائف القدر) ونبوءات العرافات تحذر من خطر (باندورا) هذه .. إذ إنها ستكون السبب الرئيسي لمتاعب البشر فيما بعد ، وسيلعب فضولها الذي لا حد له في جلب الخراب إلى البشر قاطبة ..
عقاب (بروميثيوس) الآن هو رفقة (باندورا) .. وهو لا يعلم كم الهول القادم بسببها .. وربما سيلعنه البشر لو تكاسل عن وظيفته هذه ..
وفي نفس الوقت سيتأكد (زيوس) بأن (بروميثيوس) سيتعلم أن قيادة مصائر البشر ليست يسيرة كما يظن هو ، بل سيدرك صعوبة التحكم في واحدة فقط منهم : (باندورا) ..
يا له من عقابِ قاسِ .
حاول (بروميثيوس) التملص من العقاب قائلاً بسخرية هادئة :

  • « أوووه عزيزي (زيوس) .. ألا يستطيع أحد أن يمازحك؟! أنني لست كما تظن .. أنا لست (بروميثيوس) .. أنا شخص أخر أدعى : وائـ ..»

     

  • « لا عليك .. أنا أيضاً لست من تظنه ، ولكنك أنت من بدأ الأمر ، وأنت من عليه تتحمل العواقب .. ليس من السهل أبداً أن تستخف بقدرات حاكمك وكبير آلهتك ، كما أنه من الصعب أن تحاول صنع مجدك وبطولاتك على من هو أعظم منك يا (بروميثيوس) .. كما عليك التذكر بأن :
    (الانتقام طبق يفضل أن يقدم بارداً .. لكن يجب أن تكون – أنت – كفيلاً بحمله !!)
     
    حظ سعيد هذه المرة عزيزي (بروميثيوس) .»