الإنسان !!
حتى الآن هو أكثر الكائنات رقياً على سطح الكرة الأرضية ، والمقصود بالرقي هنا : هو ارتقاء تكوينه البدني والجسدي والعقلي عن باقي الكائنات الأخرى التي تعيش معه في نفس الكوكب !
أيضاً الإنسان هو الكائن الوحيد الذي عرف كيف يتكيف مع ظروف البيئة المحيطة به ، فتجده يعيش في الصقيع القارص ، والحر القائظ .. وفي الغابات المنبتة ، وفي الصحاري الجرداء بلا أي مشاكل بيولوجية تذكر .. لقد نجح في ذكاء أن يذلل الصعاب الموجودة في ثنايا الطبيعة وتفوق على إرادتها .. عكس الكائنات الأخرى .. فالدب القطبي مثلاً لا يتحمل أن يتكيف في أي صحراء استوائية مثلاً .. أيضاً نبات الصبار لا يتحمل العيش في مكان يتواجد به الماء بكثرة !
وطبقاً لعادات الإنسان الغذائية .. سنجد أنه أيضاً الكائن الوحيد صاحب أكبر وأشمل سلسلة غذائية معروفة حتى الآن ! فهو يأكل النبات والحيوانات التي تعيش في البر ، والأسماك البحرية ، وأيضاً الطيور !
وأيضاً يعتبر الإنسان من أكثر الكائنات رفاهية بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية ! وهذه الرفاهية وفرت له بدائل وترف غير موجودة عند باقي الكائنات الأخرى .. ولنأخذ القرد مثالاً على ذلك ، فهو أقرب الكائنات شبهاً للتشريح الإنساني ، وأيضاً تالي كائن يضاهي الإنسان في ذكاءه ! إلا أنه حتى الآن لم نجد قرداً أبتكر وسيلة مرتجلة للطيران في السماء ، أو حتى الغوص في البحار العميقة مثلما فعل الإنسان وسبقه هو وباقي الكائنات الأخرى ! ومهما بلغ درجة خيال الإنسان فأنه لن يتوقع أبداً خروج سمكة من البحر مثلاً وعلى خياشيمها أجهزة تؤهلها للتنفس خارج البحر وأيضاً أجهزة تمكنها من السير على الأرض ! عكس الإنسان الذي أفلح في التوغل لأعمق المحيطات من خلال مساعدة أجهزة وفرت له الهواء الذي يحتاجه للعيش حتى في بطن المحيطات المظلمة الخاوية من أي نسب هواء يمكن استنشاقه برئتيه !! وعندما وصل الإنسان إلى درجة عمق معينة عجز عن اختراقها بهذه الوسيلة بسبب الضغط المائي الهائل ، استخدم عقله مرة أخرى وأخترع وسيلة أخرى هي الغواصات ! ثم استكمل شق غموض البحار مرة أخرى في حماس !
نفس الحال بالنسبة للفضاء ..
كان الحلم هو مجرد التحليق لمسافة بسيطة في السماء مثل أي عصفور صغير تعلم الطيران للتو .. وبالفعل أفلح في اختراع الطائرات !! ثم المركبات الفضائية التي مكنته من الوصول للقمر .. ثم المريخ ! وفي نيته الذهاب أكثر وأبعد !
في نفس الوقت الذي يجلس فيه القرد على الشجرة ويقشر موزة أو يأكلها بقشرتها في هدوء عجيب وعقل خالي من المشاكل أو الطموح .. كما كان يفعل جده القرد الأكبر منذ آلاف السنين .. الوضع لا ولن يتغير ببساطة !
الإنسان ..
هو ملك متوج على كوكب الأرض .. وبلا منازع أو منافس يخشاه !
فما هو إذن التاج الذي ميز الإنسان وجعله ملك في التطور الرهيب الذي حدث له عبر السنين ؟؟
العقل ؟!
ربما هو العقل بالفعل !
وهذا ما استخدمه الإنسان لدراسة نفسه بطريقة تحليلية تمكنه من معرفه كينونته التشريحية والنفسية الغامضة!
وكلما أفلح في فك غموض نفسه وطلاسمها ، كلما وجد عقبة أخرى تقابله بداخله!
ولعل الإنسان البدائي وقف حائراً أثناء التبول مثلاً !! ربما تساءل عن سر ذلك الماء الأصفر الذي يخرج منه !! مع أنه شرب ماء عديم اللون أو شرب دماء الحيوانات أثناء أكلها وهي نيئة أو حتى شرب عصارات النباتات المختلفة !! كيف تجمع كل ذلك وتوحد إلى لون واحد هو الأصفر الذي لا يتغير في كل مرة خلال مرات عديدة في اليوم الواحد ؟؟
أيضاً برازه .. نفس الشكل الكريه والرائحة الشنيعة في كل مرة!!
ما الذي يحدث بداخله ؟؟
وعودة إلى الرفاهية والتطور العقلي .. عرفنا أن كل ذلك يحدث نتيجة عملية الهضم والإفرازات الحمضية داخل المعدة .. وأيضاً عمليات أخرى يعرفها كل الدارسين والمتخصصين في مجال الطب !
أي أن بداخل كل إنسان منا مصانع جبارة وتعمل بلا كلل منذ أن قطع شخصاً ما الحبل السري الخاص بنا ثم ضربنا على مؤخرتنا الصغيرة لكي نبكي وأيضاً نعلن عن قدومنا إلى الحياة .. من هنا تأهبت كل الوظائف الحيوية للعمل جاهدة لمنح صاحبها الحق في الحياة إلى أن تقرر التوقف وتتوقف معها حياة صاحبها !
وربما تساءل جد من أجدادنا القدماء في حيرة :
- كيف يرى بعينه ؟
- لماذا لا يسمع بأنفه ؟
- لماذا لا يتكلم بأصابعه ؟
- كيف يتكون العرق والمخاط والدموع واللعاب والصماخ وكلها مواد موجودة في رأسه؟ ولماذا لا تختلط أي مادة منهم مع الأخرى ؟
- لماذا لا تخرج الدموع من الفم ؟ ولماذا يخرج الصماخ كل مرة من الأذن؟
- كيف ينمو شعره وأظافره ؟
- كيف يمشي على قدميه في سلاسة وتوازن ؟
وكلها أسئلة بإمكان أي طفل في عصرنا الحالي الإجابة عليها دون أدنى مشقة ذهنية !
وكلما تقدم الإنسان علمياً وبرع في استخدام عقله .. وجد وحدات أصغر بداخله عجز عن التعامل معها أو فهم سرها .. مثل الشفرة الجينية لكل فرد منا .. وكروموسومات تحديد النوع .. والجينات المسئولة عن تصرفات الشخص أو حتى الحالات المزاجية أو قدراته العقلية !
وكلما استخدم الإنسان مصباح عقله في إنارة حائط الطلاسم الموجودة بداخله .. وجد كهف عميق ومظلم أخر قابع بداخله كله مجاهل وغموض ..
لعل هناك مقولة استراح لها الإنسان في وصف نفسه تقول :
ما الإنسان إلا شرايين وعضلات وإشارات كهربائية وتفاعلات كيميائية وعظام كلها معبأة بقرطاس جلد .. أنه السر الأعظم .. واسمه الإنسان !
* * * * *
ولكن ..
أين هو العقل عندما يمارس إنسان عملاً ينافي طبيعته وغرائزه ؟!
معروف أن لدى الإنسان غرائز عديدة يحرص عليها في حياته .. ومنها على الترتيب :
- غريزة البقاء .
- غريزة الشبع .
- غريزة الجنس .
وأول ما يحرص عليه الإنسان في وجوده هو الحفاظ على حياته .. حتى بدون أي تدخل منه !
وإذا خيرت الإنسان في القضاء على حياته .. أو حرمانه من الأكل على فترات ! سيختار حتماً الاختيار الثاني .. فالمهم عنده أولاً هو حياته .. لذلك يشعر الإنسان بخوف خفي في معظم الأوقات على حياته ..
جرب أن تلسع شخص بالنار أو ألكزه بدبوس مثلاً .. ستجده انتفض لا إرادياً وأصابه الهلع !! أنه الحرص على حياته والخوف من أي مخاطر تؤذي وجوده أو تهدد حياته !
غريزة البقاء ..
أهم عنده من حتى الجنس والذي يعرف بأنه أعظم متعة حسية معروفة للإنسان حتى الآن !
إلا أن ..
حتى الآن لا يعٌرف السبب في ابتكار الإنسان في وسيلة للقضاء على نفسه بوسائل غريبة تعرف باسم الحروب أو القتل ؟؟
لقد برع الإنسان في اكتشاف وسائل عديدة ومبتكرة للقضاء على نفسه وغيره أيضاً !!
بدءاً من استخدام الحجارة والنار لقتل غيره .. ثم الحراب الخشبية المسننة .. وبعدها السيوف والأسهم .. وانتهاءاً بالأسلحة النارية ..
الآن بإمكانه بمجرد ضغطة زر إنهاء حياة إنسان أخر بمنتهى السهولة !!
ووجدت مسميات عديدة تبيح هذا القتل !! منها الحروب مثلاً .. مجموعات من الإنسان تقاتل مجموعات أخرى بكل شراسة وتصميم بالغ على القتل لمجرد اختلاف اللغة أو الجنسية أو العقيدة ..
وليت الأمر يتوقف على القتل .. بل اخترع وسائل تعذيبية شنيعة يستخدمها قبل قتل ضحيته !
هل يخفي الإنسان بداخله غرائز تدميرية يبغي محو نفسه وغيره لمجرد أنه يملك ما ليس عند غيره من الكائنات الأخرى ؟
العقل ؟
بما أني إنسان أيضاً ..
فأني أتساءل من هنا :
أين العقل أيها الإنسان ؟؟
أين أخفيت تاجك يا ملك الكائنات الأعظم ؟؟
هل ضاع منك ؟؟
أم سرقه منك غرورك وأطماعك والحرص على ملذاتك ؟
* * * * *
هل الإنسان واحد ؟؟
أعني هل يملك الإنسان طباعاً واحدة وموحدة موجودة ومنتشرة في كل فرد فينا ؟؟
الإجابة هي : بالطبع لا !
الإنسان ليس كائن صلب وجامد مثل الآلات التي اخترعها .. أو حتى كالحيوانات والنباتات التي تحيط به !
الإنسان لا يملك Software حازمة بداخله تقول له ما يجب فعله ، وما لا يليق أن يفعله ! فهو حر تماماً في اختياراته وأفعاله !
وكل إنسان هو وحدة تامة خاصة بذاته في الأفعال والتصرفات .. ويتأثر الإنسان بطريقة قوية بالبيئة والمجتمع الذي يعيش فيه !
فالإنسان في المجتمعات الصحراوية مثلاً يكون قاسي وجامد القلب والطباع ، مع لمحة من الشراسة والهمجية الملحوظة !
ومن يعيش في الثلوج والأجواء الباردة ، ستجده ذو ميول باردة ولا مبالية وتنازلات أخلاقية واضحة !
ونفس الحال بالنسبة للبلدان المتقاربة .. ستجد فيها اختلاف واضح في سلوك الإنسان وتصرفاته ! حتى في أقسام البلد الواحد ستجد اختلاف في العادات والتصرفات ..
كل القيم والعادات تختلف حسب موقع الإنسان على سطح الكرة الأرضية !
الثقافات المتعددة والمناخ العام الذي يحيطان بالإنسان هما من يحددان تصرفاته وتعامله في الحياة ..
ولو افترضنا بأن بلدان العالم إجماليها ثلاثمائة دولة .. وكان بإمكانك بأن تجمع رجل وامرأة من كل بلد .. ثم طرحت عليهم سؤالاً واحداً .. أياً كان نوعه .. ثق بأنك ستجد لديك ستمائة إجابة مختلفة ومتباعدة من كل فرد فيهم !!
الإنسان واحد في الهيئة العامة الخارجية ، لكنه مختلف تماماً من الداخل .. نفسياً واجتماعياً وعقلياً !
شيء غريب فعلاً .. ولكنه نحن بأي حال !
* * * * *
هل – بعد كل هذا – يشعر الإنسان بأنه ضعيف ؟
نعم يشعر الإنسان بأنه ضعيف !
لذلك شعر الإنسان بحاجته لمن هو أكبر منه !
الإله ..
فمنذ القدم شعر الإنسان بالاحتياج للإله كي يتضرع له ويغفر له حماقاته التي لا نهاية لها !
فحاول تجسيد الإله أمامه عن طريق الأصنام أو التعاويذ أو الطوطم وجعلها مرئية ومحيطة به لكي تراقب تصرفاته .. وأيضاً كي يتذلل لها كي تنعم عليه بالمأوى والغذاء والأمطار ! وألتف حول هذه المعبودات وقدم لها القرابين لكي ترضى عنه .. في بعض الحضارات القديمة كالأزتك والمايا كانت تقدم قرابين بشرية بغرض التقرب للآلهة !! وهو عمل أحمق وفي غاية القسوة ، لكنهم اقتنعوا به لاعتقادهم بأن الصنم سيجزيهم عنه بمنتهى الكرم الإلهي الذي لا ينضب!!
وجاءت الأديان السماوية الثلاثة التي تدعو بوحدانية الله ..
اليهودية – المسيحية – الإسلام ..
وإن اختلفت نوعاً ما في مضمونها !
ثم انبثقت الأديان الثلاثة إلى عديد من المذاهب الفرعية !
وجاءت أديان روحانية أخرى كالبوذية والزرادشتية والكونفوشيوسية والتاوية .. الخ !
الغريب بأن بالأديان وحدت جمع قليل من الناس وليس كلهم ! كما أنها السبب الرئيسي في انتشار الكراهية بين المجتمعات الإنسانية العديدة ! أي أن الأديان قد نجحت في لم شمل بعض الطوائف ، وأيضاً زرع الخلافات بين الطوائف الأخرى .. وقربت جموع قليلة من الناس في عقيدة واحدة ، وأبعدت إجبارياً باقي الناس من أتباع الديانات الأخرى !
أي أنها جمعت فئات قليلة .. وفرقت فئات أكثر !
* * * * *
ما هو أكثر شيء يؤمن الإنسان بوجوده أثناء حياته ؟
من الغرائب الموجود عند الإنسان أن الشيء الوحيد الذي اتفق عليه هذا الجنس العجيب مهما كانت عقيدته أو جنسيته أو لغته أو ثقافته هو :
الموت!
إلى الآن لم يوجد شخص عاقل بإمكانه إنكار حقيقة الموت !!
ولعلها من السخرية أن تكون الحقيقة الوحيدة المتفق عليها في حياة الإنسان هي موته!
وقد يتجادل الإنسان في أي شيء ، إلا الموت !
وطبقاً لغريزة الإنسان الأولى والرئيسية ، فإن أكثر ما يخافه ويخشاه هو الموت !
لذلك فهو يقدسه ويرهبه في نفس الوقت ..
وهناك مراسم عديدة عند الشعوب تقام عند موت شخص ما ، وتختلف طريقة الدفن حسب ثقافة الشعوب وعقائدها ..
- فهناك من يفضل دفن الميت في التراب !
- وهناك من يحرق الميت !
- وهناك قبائل تأكل جسد الميت كنوع من تكريمه واعتقادهم بأنهم – بهذه الطريقة – يعيش بداخلهم بعد موته !!
- وهناك من يقطع جسد الميت وإطعامه للطيور آكلة الجيفة فيما يسمى (مراسم الدفن السماوي) .. فهم يعتقدون بأنهم دفنوا الميت في السماء بهذه الطريقة !
- وهناك من زين وحنط جسد الميت وألبسه ثياباً فاخرة استعداداً لعودته مرة أخرى للحياة (الفراعنة) !
- وهناك من يقطع أوصال الميت ويشوه جسده كنوع من الانتقام القذر والمشين إذا كان الميت من الأعداء مثلاً !
ومهما بلغت درجة تطور الإنسان في شتى العلوم ، فأنه – حتماً – سيقف عاجزاً وخائفاً أمام وحشاً مرعباً سيلتقي به مثلما التقى بمليارات من أجداده من قبل .. ولن توجد وسيلة معينة لإلغاء هذا اللقاء المرتقب ..
أنه وحش لا يعرف التفاهم أو التفاوض أو حتى الهذر ..
أنه وحش يسمى :
الموت !
* * * * *
إذا قرأت هذا الموضوع كاملاً ..
حاول استخدام التاج الذي ميزك عن غيرك من باقي الكائنات الأخرى ..
وأذهب بعيداً ..
بعيداً جداً ..
إلى غابة ما .. أي غابة تتجسد في مخيلتك ..
توجه إلى أي شجرة موز !!
هل ترى ذلك القرد الذي يجلس تحتها وفي يده موزة يستعد لأكلها ؟؟!
هل أصابك الفضول لتعرف فيما يفكر كتلة الشعر هذه ؟؟!
هل هو بالغباء والتفاهة التي تتخيلها ؟؟
هل تحيرك نظرات عينيه البليدة ؟!
هل حاولت تأمله ودراسة سلوكه التفكيري والاجتماعي والنفسي ؟
هل سئمت من وقفتك أمامه ومللت مراقبته ؟
حسناً ..
أعط له ظهرك وأرحل من أمامه في عدم اهتمام !!
ولكن ..
ولكنك لن ترى هذا القرد وهو يلقي بموزته هذه .. ويراقب ظهرك وأنت ترحل عنه في قنوط !
هل ترى نظرات الاهتمام في عينه وهو يتأملك ؟؟
هل تفهم ابتسامة السخرية المرتسمة على وجهه ؟
هل تعرف معنى انعقاد حاجبيه ؟؟ أنها تشبهنا نحن عندما نفكر !!
ما الذي يحدث من ورائك وأنت لا تلاحظه يا ترى ؟؟
هل تعرف أنت ؟؟