12‏/5‏/2010

تداعيات أسطورة (الذي بعد ..) .

  • « سرطان الرئة . »

قالها الطبيب برتابة وهو ينظر إلي الأشعة بنظرة فاحصة سريعة ..

بينما أجفل الشاحب الذي يجلس أمامه من مفعول عبارته المقتضبة ..

كان يتوقع مرض صدري من الأنواع المنتشرة هذه الأيام ..

ولكن .. سرطان الرئة ؟!

  • « هل هناك أمل يا (دكتور) ؟! »

مط الطبيب شفتيه وهو يتحاشى النظر إليه بحكم خبرته المهنية في هذه الحالات :

  • « للأسف .. المرض مستشري بداخل ثلثي الرئة اليمنى .. لقد جئتني متأخراً جداً .. أعانك الله على بلاءك . »

أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ..

حاول أن يبحث عن ثقب منطقي في جدار الواقع يهرب بواسطته من مرارة الحقيقة ..

حتى أنه تمنى أن يتخلى وجه الطبيب عن الجدية المبالغ فيها ويصدر ضحكة رقيعة قائلاً :

  • « هأو أو .. دخلت عليك يا حلو .. عليك واحد .. نياهاهاهاهاه .. »

إلا أن عقله رفض حتى تخيل الصورة الهزلية .. هذه الملامح لا تعرف للهذر طريق .. ربما أشبه بصورة (مجرمي الحرب) كما يتخيله عقله الباطن !!

  • « وماذا عن العلاج الكيميائي ؟! »

قالها وهو يتشبث بغريزة بقاءه لآخر لحظة .. من يدري !! فهو يؤمن بأن هناك أمل تحت كل حجر ..

  • « هل تأملت التحليلات والأشعة ؟! رئتيك تحولا إلى قطعة أسفنج سوداء جافة .. حالتك متأخرة جداً كما سبق وأن أوضحت لك . »

مازال عقله يرفض التصديق ..

في أي لحظة سيتعالى صوت المنبه المزعج ليعلن وقت استيقاظه من أحلامه الطلسمية والعودة إلى الواقع كعادته كل يوم ..

كل شيء يبدو كالحلم في هذه اللحظة ..

لم يتصور أن الواقع المفرط والمبالغ فيه يوازي خزعبلات الأحلام ..

  • « ولكن .. أنا مازلت في مقتبل العمر .. كيف حدث هذا ؟! ولماذا أنا بالذات ؟! »

تقابلت عيناه مع عين طبيبه لأول مرة ..

وبدت عيناه غير مرحبتان بوجوده في العيادة أكثر من ذلك .. هناك مرضى سخفاء آخرين ينتظرون النطق النهائي في قضية وجودهم في هذه الدنيا .. أما هو فقد كان نصيبه حكم مباغت بالإعدام !!


 

تحامل على نفسه ووقف على قدمين متراخيين ، وودع طبيبه بكلمات مبهمة لم تلقى اهتماماً أو رداً منه ..


 

* * * * *


 

بدأ يستسلم للأمر بعد خطوات من العيادة ..

وأخذ يفكر في تداعيات ما بعد الموت ..

المجهول القادم ..

دون أن يدري .. وجد يده تمتد لا إرادياً إلى جيبه وتخرج بعلبة سجائره !!

تأملها بخوف للحظة ..

ثم ابتسم بسخرية قائلاً :

  • « يا للعبث .. ؟! وكأن المرء سيموت مرتين !! »


 

وأشعل سيجارته مستمتعاً ..

بينما ولد في عينيه بريق استهزاء عميق بأساطير ما بعد الموت .

8‏/5‏/2010

الخروج من الشرنقة (2) ..

كانت حياته بائسة مؤخراً !!

بل كان وجوده مرادفاً قوياً لمعنى كلمة (بؤس) ..

فقد كل شيء ذا قيمة من حوله (أبويه ، وظيفته ، أصدقاءه ، حبيبته ) ..

ومؤخراً فقد ثقته بنفسه !!

لم يتبق أحداً بجواره لكي يشكو له همه .. فقرر اللجوء إلى (الله) ..

كان يحادثه ليلاً ونهاراً ..

يتكلم معه كأن صديقه في بعض الأحيان ..

ويتعامل معه على أنه عدوه في معظم الأحيان ..

كان من المعتاد أن يناجي ربه قائلاً :

  • « أرأيت يا (الله) ما حدث لي ؟! لم أعد أملك شيئاً سواك .. فهل لك أن تتدخل قليلاً يا (الله) وتغير تعاستي وبؤسي وشقائي ؟! لماذا صمتك يا إلهي ؟! هل تريدني أن أذهب إلى بيوتك وأتضرع أمام رموزك ؟! أولست في كل مكان ؟! أفعل شيئاً .. أرجوك يا (الله) .. تعبت ، ولم أقدر على الاستمرار .. فأنا ألومك من فرط محبتي لك .. ولم أفقد الإيمان بك ولو للحظة .. أنا لا شيء بالنسبة لك يا (الله) .. ولكنك كل شيء لي .. أرجوك أفعل شيئاً .. أرجوك . »


 

بعد انتهاءه من الابتهال والتضرع حسب طريقته .. قام بفتح عينه ، وتوقع أن تتغير الدنيا من حوله إلى الأجمل .. ربما أشبه بالأسلوب الساحر والخالب للألباب في الأفلام الخيالية ..

ولكن ..

لم يحدث شيء ..

لا يزال في صالة شقته الصغيرة ..

محاطاً بجدران كئيبة تحوي خربشاته الطفولية العابثة ..

التلفاز العتيق يصدر أصوات مبهمة تحكي أنباء عن مصرع العشرات في انفجار ما في منطقة ما .. يليه نبأ عن مقتل المئات بسبب إعصار عاتي في منطقة يسكنها الفقراء من دولة ما ..

أطرق رأسه في ذل وهو يتمتم في ضعف :

  • « ويبقى الوضع كما هو عليه .. لا فائدة . »


 

وسولت نفسه في الدخول إلى نوبة بكائية حارة ..

لكنه سئم من الضعف ..

فرفع رأسه إلى سقف الغرفة بغضب قائلاً :

  • « حسبك .. ألم تمل بعد من هذا العبث ؟! تشاهدنا وترانا بلا إحساس ؟! نتألم ونتعذب هنا ، وأنت كما أنت .. تتفاخر بلا كلل بذاتك العظمى وكمالك المثالي !! بينما في كل لحظة تتعالى صرخات المعذبين أمثالي .. قل لي .. كيف يبدو الأمر بالنسبة لك ؟! هل أنت بعيد لدرجة أن لا تصلك دموعنا ؟! أم تتلذذ بعذابنا ؟! هل أنت موجود ؟! أم وجودنا واه بالنسبة لك ؟! هل نحن مجرد أحلام تتشكل لك ؟! ما أنت ؟! قل لي . أجبني .. أرحني .. أعطني سبباً واحداً لما يحدث .. دلني على إشارة واحدة تثبت وجودك !! »


 

(لم يحدث شيء !!) ..

  • « غريبة .. لم تكلف نفسك بتسديد عقاب لي يثبت غضبك علي .. حتى غضبك كان سيبدو لي دليلاً على وجودك .. لكنك تكاسلت عنه ، هل ذهبت أيام مجدك بلا رجعة ؟! أيهل جفت أمطار طوفانك ؟! أم خمدت حركة زلازلك وتجمد رصيد براكينك ؟! أدعوك لأن تغضب علي .. قم بسخطي حتى لأتأكد منك .. أفعل شيئاً .. يقتلني صمتك .. فأنا لم أعد أحبك .. ولا حتى أخافك .. ارني قسوتك التي تغنيت بها .. أتحداك لأن تفعل شيئاً .. والآن . »


 

(نفس الوضع .. لم يحدث شيء !!) ..

تراخت قواه من فرط تشنجه السابق .. تكور على نفسه في وضع جنيني ودخل في نشيج واهن ..

  • « أعلم أنني لا شيء .. فلا أنا صاحب نفوذ ولا مال ولا شهرة .. أنا لا شيء بالنسبة لك .. ولا شيء حتى بالنسبة لنفسي .. حاولت أن أفعل شيئاً .. ولكني ضعيف يا (الله) .. وقضيت عمري كله في البحث عنك في كل مكان .. ولكني لم أجدك .. سامحني إن تبجحت عليك .. ولكنه حقي .. فما يحدث لي لا أملك عليه صبراً .. وأنت لم تمر بظروفي لحظة واحدة .. ظننت أنني أقوى منك في صبري وتحملي .. ولكني أعترف بضعفي .. سامحني أرجوك .. سامحني .. »


 

ظل يردد عبارته الأخيرة بصدق .. حتى غالبه النعاس في وضعه هذا .. فنام على رقدته ..


 

* * * * *


 

مسكين أنت ..

تعبت من أجل الوصول إلي ..

بحثت في كل الأنحاء .. ولم تمل من البحث عني ..

حاولت التعامل معي وكأني مثلك وعلى هيئتك وطبيعتك ..

أنا صانع الأكوان كلها بهيئتها ودقتها .. وظننت أنت بمحدودية صنيعي .. فلا الشمس أكبر الموجودات كما يعتقد عقلك .. ومع ذلك ليس بمقدروك أن تنظر إليها ..

ولا الذرة أصغر الموجودات كما يظن عقلك .. ومع ذلك لا يمكنك أن تراها ..

صنيعي متعاظم أيها المسكين .. فلا يوجد وحدة عظمى .. ولا وحدة صغرى ..

ومع ذلك تمني نفسك في أن ترى صانعه ملء العين وتجلي الرؤى !


 

وحاولت الوصول إلى بالرتابة ..

وأوصلتك قناعتك بأنك ستصل لي عن طريق أفعال وكلمات بعينها ظناً منك أنها وسيلة سهلة لأمتثل أنا لطلباتك وأمانيك !!

وفي مخيلتك أن محرك الأفلاك والمجرات والأجرام كلها يقبع في شوق ولهفة لحركة يسيرة منك ..

أتظن بأن بضعة كلمات تقولها أنت كفيلة بتعظيمي !

أو بضع أحرف تكفي لاحتوائي أنا وما صنعت !

أيها المسكين ..

أنا صانع العظمة كلها .. ولا احتياج لي بها ..

فهي منالكم أنتم ..

فأنا لا أصف ذاتي – أبداً – بما أصنع ..


 

تبكي إلي ..

وتشكو إلي مني ..

وتلومني على ضعفك ..

وتطلب بتذلل بأن أصنع شيئاً حيالك ..

ولم تجرب مرة أن تشاء صنعاً .. بل تتحجج بمشيئتي أنا ..

تقف في مكانك ساكناً .. وتطلب مني أن أسري إليك بجميع الأنحاء ..

ونسيت أن مشيئتي أنا من مشيئتك ..


 

أيها المسكين ..

أتيت لي طالباً طامعاً ..

و راجياً آملاً ..

ثم خائفاً مذعوراً ..

وبعدها غاضباً حانقاً ..

ولم تجرب أن تأتي إلي تواصلاً بذاتك لذاتي ..

لم تشأ أن تجيئني كما أنت ..

بل حاولت أن تصل لي عن طريق غيرك من المساكين ..

وفي ظنك بأن الطريق إلى صانعك يمر بطرقات صنعها آخرين ..

تعالى إلي ..

أصنع طريقك بطريقتك ..

هلم إلي ..

فلا يوجد حاجزاً أمام ذاتي وذاتك ..


 

أيها المسكين ..

أتعبك البحث عني في كل الأنحاء ..

ولم تجرب أن تبحث عني بداخلك .