24‏/8‏/2010

حوار مع صديقي الــ .. (2)




كنت أنا وصديقي ..
والناس كثر حولنا ..
ولكن – وحده – كان الملل ثالثنا ..
كان صديقي يتسلى بمراقبة المارة من حولنا بملامح تنضح عليها القرف الغير مبرر !! من الصعب أن تنظر إلى المئات من الوجوه المكفهرة والبائسة حولك ، ثم ينتابك موجة حماسية فجائية تتخللها ملامح الأمل والنشوة كالتي تتسلل على وجه (أسامة ابن لادن) بعد انتهاءه من الاستمناء على وصف الحور العين !!
وبما أنني لم أخطط أن أصاب بالاكتئاب بالإضافة إلى الملل السائد ، قررت أن أستغل عقل صديقي الجامح في الخروج من هذا الملل الكئيب أو الكآبة المملة .. لذلك سألته في كياسة :
-         « ما هو أفضل حدث سعيد مر عليك في حياتك كلها ؟! »
انفرجت شفتا صديقي بعدما سمع سؤالي وقد أدرك القصد من وراءه ، لكن أدار رأسه بعيداً لتتركز عيناه – بقرف – على شاب ثلاثيني يمشي بتؤدة تملؤها العصبية وهو يتحدث في المحمول مصدراً صوتاً عالياً لا مبرر له !! وكان يؤكد – بصراخه – للطرف الأخر صدق نوياه في أن يخرج أموات والدة (أبن الكلب) الذي يدعى (عويس) !!
تابعت عينان صديقي هذا الشاب حتى مر من أمامنا ، وحتى بعد أننأأأااا تخطانا وأنا أتعجب أن هذا الشاب لم يحترق من لهيب نظرات صديقي التي اختصرت كل معان الاشمئزاز والاشمئناط  ..
قال صديقي فجأة وقد أدار وجهه مرة أخرى ناحيتي :
-         « أنني لم أولد وفي ثنايايا ما يسمى بـ (الكروموسوم الأرعن) . »
إجابة مباغتة لسؤالي تبشر بحديث طويل مع صديقي ..
ولكن .. أي (كروموسوم) يقصد صديقي ؟!
لذلك سألته :
-         « هل تقصد ( XX ) أم  ( XY )؟! »
-         « ( XX ) بالطبع !! أنه كابوس مجسد بدون مبالغة .. لعنة اللعنات باختصار مقتضب . »
-         « هل تعني أن حياتك كانت ستأخذ منحنى أخر مخالف لو ولدت أنثى ؟! «
قطب صديقي حاجباه بدون قصد منه ، ثم ركز بعيناه الحادتان إلى زاوية مجهولة لم تسجل بعد في العلوم الهندسية !! ثم قال بصوت عميق :
-         « هل بمقدورك أن تتخيلني وأنا فتاة حالمة في أولى سنوات الطفولة الواعية ، لا هم لي سوى أن ألهو لمجرد اللهو .. لا مشاكل حياتية من نوع معين .. فقط طفلة ذو ضفيرتين ولا شيء أخر .
ثم أتفاجأ – برعب – بإطلالة ضيف فسيولوجي دموي بعض الشيء ، لعله أول صدمة حقيقية وجادة في حياتي .. عندها تبدأ لحظات الحيرة والتيه ، أخجل من مجرد السؤال عما اعتراني .. إنها مشكلة سرية أنا فقط المسئول عنها في مجتمع لا يقبل مناقشة مثل هذه الأمور بأريحية أو بواقعية !!
عندها تحسب علي كل حركة وكل لفظ وكل تصرف أقوم به ..
كل ما خارج جلدي هو سجن .. وأنا نفسي مسجون داخل نفسي ..
الأمر صعب بدرجة مرعبة ..
ثم تبدأ هرموناتي في الجنون .. فيتكور نهداي .. ويلتف قوامي بامتشاق واضح !!
هنا يبدأ الجحيم الحقيقي ..
لك أنت تتخيل العيون الجائعة من الذكور التي تطاردني في كل مكان .. لا تطاردني لكوني أنا .. بل لأني أنثى !!
نظرات نهمة جائعة شرسة تنهش كل زاوية في الجسد الذي يحتويني ..
ومهما اكتسيت من ملابس ، فإن حيوانيتهم كفيلة بتجريدي من كل غطاء في مخيلتهم !!
الأمر مقزز أن تمشي بصورة طبيعية في أي مكان ، ثم تشعر بأن هناك من يراقب رجرجة نهدك ، أو حركة أردافك الترددية ..
الجميع يشتهون طعمك ..
الجميع يتوقون للتضاريس البضة المحشو بها جلدك ..
أنت قطعة لحم ، وهم قطيع من الجياع ..
حتى تحين المرحلة التالية ..
التأهيل الأيضي للقيام بدورك في الحياة ..
(ابن الحلال) يطرق الباب وعلى وجهه ابتسامة جذل ، ويراقب في خبث البضاعة قبل أن يدفع .. ويتخيلني كدمية جنسية ترضي رغباته وشهواته ..
عندها تتسع ابتسامته في رضا وهو يصرح بأن أهم شيء بالنسبة له هو الأخلاق .. فقط الأخلاق !
ولكي أثبت أخلاقي فعلاً .. علي أن أهديه ما يزيد عن ثلاث نقط دم أسكبهم على ملاءة لقاءنا المنتظر ..
عندها سيفرك شاربه في فخر .. ويقول جملة تحتوي كلمة (مدام) بين طياتها.. ثم يغط في نوم عميق يراوده أثناءه فخر أمجاد الذكورة ..
وعند صبيحة اليوم التالي تبدأ الأشغال الشاقة المنزلية ..
ولابد أن أحرص على أن لا تكون بضع حبيبات ملح سبباً في جدال على طاولة الغذاء ..
وأن أحرص على توافر جواربه في الركن الذي اعتاد أن يجدها فيها ..
وأن أستعد له في المساء بطريقة تثيره جسدياً ، ليكافئني هو بحركات رأسية من وسطه !
مهماً قال .. فهو على صواب ..
فكيف تنصف من هي تعيش بنصف عقل .. ونصف دين ؟!
كروموسوم واحد هو حد فاصل بين اللاشيء .. وكل شيء ..
وإنني لا أعرف إلى من أتوجه بالثناء لكوني ( XY ) متحكم ومتفرد بذاتي ..
لكنني أعتبره في صمت وسرية أعظم ما حدث لي طوال حياتي . »
لم أرد مباشرة على حوار صديقي ..
فرحت ببطء أعب صدري بدخان سيجارتي (والتي لم أدري متى أشعلتها!!) .. وأخذت أنفث سحبا بيضاء من فمي ، فتناثرت بعبث أمام وجهي !!
-         « كلامك يخترق قلب مشكلة .. والمشكلة تحولت إلى سور أقرب إلى قفص اتهام كبير يتوسط الذكر والأنثى .. كل منهما يشاهد الأخر وراء هذا القفص ، وكل منهما لا يعرف أي منهما الحر .. وأي منهم هو الحبيس !! الأنثى هي ضحية اجتراء مجتمع ذكوري قح .. والذكر يرفض الاعتراف بالواقع ، بل يعزز بالمزيد من الحبس والقهر والكبت والقمع .. لعل تخيلك وتفسيرك أوضح اعتزازك الواضح بجريمتك .. أنت ذكر أيضاً .. لابد أن عيونك طافت حول أطنان من النهود ، ورتبت بخبث حول الأرداف ، ولثمت بعفوية غريزية كل شفة أعجبتك وجه صاحبتها ..
هل أنت بالقتامة الكافية لكي لا تقر جريمتك ؟!  إن عذرك يتضاعف بمعرفة أبعاد جريمتك !! وكونك تعيش في مجتمع متناقض في كل شيء فهذا لا يعفيك من التنصل من جرمك ..
أنت محشو في قرطاس جلدي يسمح لك بارتكاب ما يحلو لك ..
هرموناتك وكروموسوماتك هذه اتخذتها سلاح تفتك بها – بلا رحمة – من لا يملكه ، وتهتك بها كل ما تطوله أطرافك الخمسة في فخر !!
وحينما أسألك عن أفضل حدث سعيد مر عليك ، فتكون إجابتك هي عدم كونك أنثى ؟! أي أنانية هذه التي انتابتك ؟! »
تنهد صديقي بمجرد انتهائي من ردي عليه ..
ومط شفتيه كعلامة مميزة لدخول حوارنا إلى منعطف خطير ومنحدر عميق ..
صديقي عليه أن يدافع عن رأيه بأسلوب مقنع ..
عليه أن يخرج من قفص الاتهام الذي أحاطته به عيناي ..
وأني لا أخفي لهفتي في سماع حجته هذه ..
لذلك قال بعد فترة لا بأس بها من التفكير العميق :
-         « أنا وأنت نعيش في مجتمع شرقي .. وكلمة (شرقي) هذه تخفي الكثير والكثير بين طياتها !! أنها اختصار قوي لجملة : (مجتمع ذكوري شمولي) .. كل شيء هنا لخدمة الذكر .. ذلك الكائن كثيف الشعر وخشن الصوت وكريه الرائحة !!
في هذا المجتمع – وحده – ينتشر مفهوم كلمة (الشرف) على أساس جنسي فقط ..
(شرف البنت مثل عود الكبريت) ، لذلك على البنت أن تتحمل عناء الحفاظ على شرفها المتمثل في غشاء بكارتها !! تخيل نفسك تعيش في حرب ضروس طوال حياتك من أجل أن لا تطولك الألسنة بكلمة تشكك في بنيان غشاء رقيق قد يتقطع أثناء القيام بركوب دراجة أو حركة عنيفة مفاجأة ؟!
أعرف صديقة لي صرحت لي إنها عاشت جحيماً لا يطاق في مراهقتها لمجرد أنها وجدت نقطة دم في غير أوانها .. كانت تبكي طوال الليل وقد تخيلت نظرات المحيطين بها وهي تتهمها بلا رحمة دون ذنب اقترفته هي .. ولم تسترح حتى ذهبت إلى طبيبة تؤكد لها سلامة بكاراتها .. هل تصورت ولو للحظة الجحيم الذي عاشت فيه هذه الفتاة ؟!

وماذا عن شرف الرجل ؟!
ما هو مفهوم الشرف عندك أنت أو عندي أنا ؟!
هل الشرف يتمثل في البطولة الحربية ؟!
هل نحن – الذكور – نعيش بلا شرف في السلام ؟!
هل للذكر عذرية في مجتمعنا ؟!
بالطبع لا ..
إذن الذكر هو كيان ظالم مطلق .. والأنثى مظلومة بقهر مطلق ..
أخبرني أنت يا ذا العقل المنطقي : هل تقبل أن تكون ظالم أم مظلوم ؟!
هل تقبل أن تعيش جلاد أم ضحية ؟!
هل تريد أن تصبح جاني أم مجرد مجني عليه ؟!
إجابتك ستحدد مصير باقي الحوار . »
صعقت جراء منطق صديقي المجرد ..
لقد جاءت الحقيقة في حورانا عارية ، فنفرنا منها بتأفف جلي ..
أنا وصديقي نفخر بكوننا ظالمين وجلادين وجناة .. هكذا بكل بساطة !!
لذلك قلت في حدة :
-         « ولكنه هروب .. بل هو الجبن بعينه .. حتى شرفنا الذكوري مشكوك فيه ! حتى ولو كانت الأنثى مظلومة ، فهذا لا يعطينا الحق في أن نفخر بجريمتنا .. »
-         « يا عزيزي .. لا تعاقبني على جريمة لم اقترفها ، أنه عيب المجتمع !! »
-         « الفرد وحدة بناء المجتمع ، وأنا وأنت هو هذا المجتمع .. فلا حجة لك ! »
-         « حسناً .. الفرد هو وحدة بناء المجتمع كما تقول ، ولكن .. هل هذا الفرد حر ؟! هل هو حر التفكير والعقيدة والعادات ؟! بالطبع لا .. بل تعامل كل فرد أمام الأخر يتوقف على عدة عوامل .. فحواري معك مثلاً سيختلف لو كنت أنت مسلم أو مسيحي أو يهودي أو حتى ملحد !! حواري سيختلف معك طبقاً لنزعاتك الثقافية واتجاهاتك السياسية مثلاً .. وكل هذه العوامل ليس باختيار حر منك ، بل هي موروثة سلفاً ويصعب تغيريها .. أنا صديقك الوحيد .. وأنت صديقي الوحيد .. لأننا نتشابه كثيراً في التفكير .. حاولنا تحطيم القيود المفروضة علينا .. نحن أحرار بصورة مصغرة !! ولكن .. نسبة كبيرة من المجتمع تظن الحرية هي الفجور والخلاعة والمجون في كل شيء بلا حساب !! لذلك ولد الخوف وانتشر بكثافة بيننا .. مجتمعنا هو مزيج مزعج بين الخوف والترقب والارتياع من ألسنة ونظرات الآخرين .. لذلك يحاول كل فرد إرضاء الآخرين على حسابه الشخصي !! ولهذا السبب انتشرت الكثير من العادات السخيفة التي لا هدف لها سوى التصنع ونشر الزيف ، ولهذا السبب انتشر التناقض الرهيب في مجتمعنا .. والكل يحاول التطبيق بصورة عمياء ولا معقولية .. أما القربان المفضل في هذه التضحية الجماعية فهي الأنثى وحدها .. سلبناها الكثير والكثير من حقوقها البسيطة .. لذلك الرعب – كل الرعب – أن يتصور أي رجلاً كونه امرأة .. صدقني أنه لن يصل بتفكيره نصف ما ذكرته لك في أول حديثنا !! لعل تصوري هذا وتوغلي في عالم المرأة هو سوط مؤلم أجلد به نفسي كمحاولة مني للتنصل مما يحدث في مجتمعنا !!
يقولون في أحد الأديان أن الملائكة بكت كثيراً من أجل تردي حال البشر البؤساء ، وتسبب هذا البكاء في هطول دموع الملائكة إلى البشر على هيئة أمطار ترويهم وتعينهم على بلائهم .. لذلك عرض عليهم إلههم تحوليهم إلى هيئات بشرية لكي يساندون البشر ويتعايشون معهم .. لكن جميع الملائكة رفضوا بكل إباء ..
نفس الوضع هنا .. فأنا لست بأفضل من الملائكة في هذه الديانة .. أنا لا أسعى لأن أكون أنثى أبداً .. »
أخرستني كلمات صديقي تماماً ..
وشردت للحظة وأنا أتخيل نفسي أنثى تمشي بين طيات شوارع مدينتنا .. حيث يتحول كل ظل من حولي إلى شبح مرعب يتبع خطوات ذكر أنيق الملبس .. ربما لحظتها أدركت حجم الجحيم الذي تكلم عنه صديقي ..
أشياء كثيرة كانت ستتغير في حياتي بسبب (كروموسوم) تافه لا يرى حتى بالعين المجردة !!
هل الإنسان كائن عشوائي المصير طالما تتحكم في حياته عوامل قهرية لا مناص من تغييرها ؟!
ولماذا ترتبط مفاهيم الأنوثة في مجتمعناً ارتباطاً وثيقاً بالجنس ؟! هل الأنثى هي مجرد أداة جنسية فعلاً ؟!
هل أجرؤ بالتصريح بأن الأنثى تتساوي مع الرجل حقاً ؟!
 ما هو حال المجتمع لو صرحت الأديان بأن المعبود هو مزيج ما بين الأنثى والذكر .. ويجوز إطلاق صفات التذكير والتأنيث عليه !! هل كانت ستتغير معاملة الأنثى حقاً ؟!
ما هي المعايير المطلوبة من أجل تغيير جاد لوضع الأنثى ككائن يأتي في المرتبة الثانية بعد الرجل ؟!
-         « ما هو معنى أسم (عويس) ؟! »
ابتسمت بعدما سمعت سؤال صديقي إلي ..
ولا أخفي أنه انتشلني – قاصداً – من تلابيب بحر هادر من الأسئلة التي لا إجابة لها ..
لنقل أني فضلت الفرار والهرب من هذه التساؤلات ..
المشكلة موجودة وواضحة .. لكن أين هو الحل ؟!
هل هناك حقاً حل ؟!
أم .. يبقى الوضع على ما هو عليه ؟!

29‏/7‏/2010

الخروج من الشرنقة .. (3).

فوجئ قائد السيارة بانفجار الإطار الأيمن الخلفي للسيارة ، فنزل منها وهو يلعن حظه السيئ الواضح في بداية اليوم !!

بينما انهمك في تبديل الإطار ، لاحظ أنه يقف بجوار السور الحديدي لأحد المستشفيات المتخصصة في الأمراض العقلية ، وانتابه الذعر أكثر وهو يتعجل لإنهاء المهمة ، ومن ثم الفرار بأقصى سرعة من أمام هذا المكان والذي اعتبره مشئوم في قرارة نفسه!! لذلك لم ينتبه وهو يضع الأربعة مسامير الخاصة بتثبيت الإطار فوق أحد بالوعات المجاري ذات الشقوق الطولية !!

ثم تفاجأ باختفاء الأربعة مسامير معاً !!    

عندها أصابه اليأس تماماً ، وقرر الهروب من أشعة الشمس حتى يتمكن من اتخاذ قرار بصدد هذه الكارثة التي جاءته بلا ميعاد .. لذلك احتمى بسور المستشفى وهو يعصر ذهنه لإيجاد حل .

جاءت المفاجأة الثالثة على هيئة صوت هادئ يأتي من خلفه يقول :

  • « لماذا لا تأخذ مسماراً واحداً من الثلاثة إطارات الأخرى ، ثم تثبت بها الإطار الرابع ؟! بذلك سيكون لديك في كل إطار ثلاثة مسامير كافية لتوصيلك لمكان يمكنك شراء أربعة مسامير . »

التفت الرجل وراءه ليواجه المتحدث المجهول .. ثم تفاجأ من هيئة المتحدث الرثة والغير مهندمة ،ثم ملامح الشخص نفسه والتي تشي بطبيعة وجوده داخل هذه المستشفى .

لذلك من الطبيعي أن يتعجب الرجل – قائد السيارة – من الفكرة ومن طبيعة قائلها .. وأجابه بدون تفكير :

  • « إنها حقاً فكرة رائعة .. ولكن كيف توصلت إلى هذه الفكرة وأنت نزيل مستشفى للأمراض العقلية .. كيف خرجت هذه الفكرة من مجنون مثلك ؟! »

هنا رمقه الراجل الواقف خلف السور بنظرة ساخرة عميقة .. ثم قال في هدوء :

  • « قد أكون مجنوناً .. ولكني لست غبي . »


 

السؤال هنا :

  • هل يعتبر قائد السيارة (غبي) فعلاً ؟!

20‏/7‏/2010

حوار مع صديقي الـ ... (1) .

سألت صديقي الحكيم عن أكثر ما يخشاه في هذه الحياة ..

فظهرت على وجهه ملامح الحنكة الممزوجة بالاشمئزاز وهو ينظر إلى الركن الجنوب الغربي.. ثم قال بعد هنيهة :

  • « أكثر ما يخفيني هو :

    أن أقابل أنثى تدرك – جيداً – قيمة جمالها ..

    أو

    أن أقابل رجلاً لا يعرف مقدار غباءه . »

    صدق صديقي الصدوق !

16‏/7‏/2010

سؤال إليها :

هم يقولون : إنه قال :إنه يقول :

أنكِ مستودع عورات ..

فهل صدقوا ؟!

9‏/7‏/2010

كائن اسمه الحب .. !

كانت ليلة هادئة من ليال شهر (أغسطس) ..

السماء صافية .. والنجوم كثر وساطعة على غير العادة ..

استند هو بظهره على جذع شجرة ، بينما استلقت هي بظهرها على صدره ..

الهدوء هو الحاكم الأوحد للمكان هنا .. على الرغم من كونه حديقة عامة .. إلا أن الصمت بدا كأنه (النشيد الوطني) هنا !!

فوجئت هي بتنهيدة حارة جاءت من صدره .. فالتفتت برأسها للوراء لتواجه عيناه ، فوجدتهما مسلطتان إلى السماء بعمق واضح .. فابتسمت وقالت في دلال هامس :

  • « هل هي النجوم ؟! »

رد على ابتسامتها بابتسامة عذبة وهو يحول عينه إلى عينها :

  • « نعم .. هي النجوم .»
  • « أتطالع النجوم وأنا في حضنك ؟! ما أطمعك حقاً !! »
  • « طمع ؟! وهل أطمع في أن أحتضن النجوم ؟! إنها – فقط – تذكرني بأسطورة قديمة ! »
  • « أممممم .. أسطورة ؟! لابد أنها تستحق لأن تقصها علي الآن ، لنرى هل تستحق النجوم أن تأخذك مني أم لا . »
  • « حسناً حسناً .. لكنها غريبة بعض الشيء .. لا تنسي إنها أسطورة ! »
  • « هل تعتقد يا (حبيبي) أن هناك شيء ما بعينه صار عادي مألوف أو حتى رتيباً ومملاً منذ أن عرفتك ؟! »

ابتسم وهو يضمها إلى صدره أكثر .. ثم دارت عيناه للنجوم مرة أخرى وهو يحكي في تأثر :

  • « قبل البداية .. وقبل أن يوجد الوجود .. كان هناك الذات العظمى فقط .. لم يوجد له اسم ، لأن الأسماء لا تكفي لوصفه ولا احتواء ذاته .. كان موجوداً بأسلوب أسمى من الوجود نفسه .. ربما أشبه بالوجود العدمي .. أو العدم الموجود .. أو عدم العدم .. أو عدم وجود العدم .. أو وجود الوجود المعدوم .. أو العدمــ ... »
  • « حبيبي .. لا تشرد أثناء سرد قصة شرودك مع النجوم .. لا تنس من فضلك .. أنت تقص علي أسطورة وليس أطروحة فلسفية بطريقة (السلبية الإيجابية) المبتسرة الوافية للمحاور الفرعية والمنبثقة إلى أخر هذا الهراء .. أنت هنا حبيبي .. فقط حبيبي .. وشردت عني للحظة وضعفت أمام نجوم السماء .. فما عذرك إذن ؟! »
  • « المعذرة .. أنتِ خير من يعرفني ! دعيني أكمل إذن :

بطريقة يصعب علينا فهمها .. تقرر ولادة الكون .. وتقرر ميلاد النجوم .. وتقرر نشوء الزمن ..

واتحد الزمان مع المكان للمرة الأولى .. وتكون الوجود ..!

وقرر الذات العظمى أن يهدي للوجود هبة من نوع خاص : الحياة !

وتجمعت جميع الأرواح لكافة الموجودات وتمثلت لأمره ، ووقف كل منها في انتظار دوره للرحلة الموعودة في الحياة .


 

في خضم هذا السكون الأعظم تآلفت بعض الأرواح مع بعضها وتلاحمت إلى درجة الالتصاق الأبدي .. كان الأمر أشبه بدائرة هائلة أنت مركزها !! كلما اقترب منك روح أخرى ، لكلما زاد التصاقك بها !

حتى تبدأ المرحلة الثانية لرحلة الروح : دخولها إلى جسد ساكن هامد حتى تحين مرحلة الولادة .. وأول شيء تفعله هذه الروح هو البكاء بسبب وجودها داخل هذا السجن الجسدي المليء باللحم والسوائل المقززة .. وكلما تذكرت هذه الحقيقة دخلت في نوبة بكاء حارقة ..

ومع الوقت المحسوس تبدأ هذه الروح في تناسي حقيقتها ، وتبدأ في التعايش حسب ما تملى عليها من تعاليم وأوامر وعادات وتقاليد وطقوس دينية مفروضة بلا مناقشة من السابقين ..

ثم تنسى أمر أصلها برمته بعد الانشغال في مصاعب ومتاعب الحياة التي تنغمس فيها بلا أدنى تخير !!

حتى يحدث شيء يعيد للروح الغافية صحوتها الأولى ..

عندما تقابل قرينها الذي تألفت معه في جنبات السكون الأعظم وينبوع الأرواح ..

لحظتها يبدأ الانجذاب الغير مألوف لكلا الروحين معاً .. لا مقاومة ولا تنافر معتاد يحدث هنا ..

فقط شيء طبيعي يحدث بصورة غير طبيعية !! وكل روح تسأل الأخرى في صمت بليغ تعجز جميع اللغات في التعبير عنه :

(أحقاً هو أنت ؟!)

وسرعان ما تتسارع الأمور ، ويعاد لم شمل الروحين تحت ما يسمى اعتباطاً (الحب) حسب مفهوم البشر .. ولكن العلاقة بدأت من قبل أن توجد أجسادهم ذاتها ..

ولكن .. ليس كلهم محظوظين !! فهناك الكثير من الأرواح البائسة التي فشلت في العثور على شريكها طوال رحلة الأجساد الفانية .. لذلك تهيم بعد الموت إلى عنان السماء على هيئة نجوماً حائرة مستكينة ، ولكنها تنادي بأمل على الروح الأخرى وتعلن عن مكانها في جلاء .

لذلك شردت مع أحد النجوم – يا عزيزتي – وهو يضيء بوميض متقطع كأنه نداء متوسل إلى شخص أخر لم يولد بعد .. كأنه يقول بوهن :

(سأنتظرك .. ها هو مكاني .. أنه رحلتك وعد إلي) .

ربما صوب إلينا حواسه وكلل إلينا نظرات حاسدة إلى حالنا معاً.. »

ألقت هي نظرة سريعة إلى النجم المقصود ، ثم عدلت وضعها لتنام بصدرها على صدره وهي تقول بنعومة :

  • «
    قصتك سخيفة جداً يا حبيبي .. بل هي لم تغفر جريمتك في حقي !»

طالع وجهها في حنان وهو يبتسم قائلاً :

  • « أممممم . لا أنكر أن جزء صغير مني يؤمن بجزء كبير من الأسطورة .. ولكن ! هل تثير كتلة هائلة من الحجر السابحة في الفضاء غيرتك ؟! »
  • « بل الهواء الذي يدخل صدرك بدون أن يمر على شفتاي أولاً كفيل بإثارة غيرتي .. أنا أحبك أيها الأحمق .. أحبك . »

امتدت يده لتضم رأسها على صدره ، ثم أحنى رأسه ليقبلها في رأسها ، ثم أخذ نفساً عميقاً قبل أن يقول وهو يداعب شعرها :

  • « لازلت كما أنت .. حلقة التطور المفقودة بين الإنسان والوردة .»
  • « هل فكرت من قبل عن كنه الحب ؟! أعني لماذا أحبك بالذات ؟! ولماذا تحبني أنت ؟! ما سر الحب يا ترى؟! ما هي قواعده ؟! «
  • « حبيبتي .. لا تحاولي تفسير شعورك بما يسمى الحب .. إنه موجود فحسب ، وهو ليس علم مادي محسوس له قواعد خاصة كالكيمياء أو المنطق أو الفلسفة أو الرياضيات .. الحب حقيقة لا يحتاج إثباتها دخولنا إلى معامل أو إجراء تجارب عليها .. البعض يقول انه : ( أشبه بسكين نصله مشبع بمخدر قوي يتسلل إلى قلبك بدون أن تشعرين .. وإذا ما تزحزح هذا السكين خارج قلبك كلما تعالت صرخاتك هلعاً وألماً على فقدانه . ).. وهناك حكمة مشهورة عن الحب تقول : (الحب كالفراشة الصغيرة بين أصابعك .. لو أحكمت أناملك عليها لماتت وتمزقت على الفور ، وإذا ما تراخت أصابعك عليها لطارت على الفور بعيداً عنك ).

    وهناك سخيف أحمق قال عن الحب أنه : (جريدة سرية تصدر كل ثانية ، ولا يقرؤها إلا محررها ) ورغم ما قيل عن الحب فإن الجميع يهرع إليه بتهافت غريب !! وهناك التعساء الذين شعروا به ، ليجدوه رحل عنهم خلسة بدون حتى لحظة وداع .. ومع ذلك هم على أمل بأن يعود إليهم مرة أخرى ..

    سؤالك عن الحب أشبه بالظمآن المتلهف على الماء ، ثم يشغل عقله ويتساءل عن الطعم الفعلي للماء في أول جرعة راوية .. الحب حب .. ولا شيء سوى الحب . »

صدقت على كلامه بإيماءة رقيقة من رأسها .. ثم قالت :

  • « هل لازلت تتذكر المرة الأولى ؟! »

لم يقاوم النظر إلى النجم إياه قبل أن يرد وهو يبتسم :

  • « وهل أقدر على أن لا أتذكر ؟! »

استرسلت هي وكأنها لم تسمع تعقيبه :

  • « كنت في أحدى الحفلات الصيفية ، كان الملل يعتريني في كل لحظة .. على الرغم من أن الحفلة لم تكن تنكرية ، إلا الأقنعة الزائفة كانت على وجوه الجميع .. هذا يتملق في هذا .. وهذه تقارن جمالها بهذه .. وهؤلاء ينافقون في هؤلاء .. شعرت بأنني وحيدة في صحراء صغيرة تحيط بها صحراء أكبر .. كنت على وشك المغادرة بعد أن أصبح القنوط حليف الملل ضدي .. إلا أن إحساس غير مألوف راودني في لحظة بعينها .. هناك صوت وقور تردد في كل مكان بداخلي بأن أنظر ورائي ، صوت غير مألوف كأنه هو صوت القدر ذاته .. أو شيء ما أكبر من القدر :

    (أنظري ورائك) .

    صوت سمعته مرة واحدة في حياتي !! ثم انتهت مهمته بعدها .

    وعندها نظرت ورائي . »

أدارت عينها إلى عينيه لتجده ينظر إليها في هيام ، كأنما استحضر كلامها تفاصيل الحدث .. وتضرج وجنتاها بحمرة خفيفة وهي تكمل قائلة :

  • « عندما نظرت ورائي ، وجدتك تحدق في من ظهري .. كانت عيناك حادة النظرات ، وحاجباك معقودان ويكادا أن يلتحما معاً ! وقفتك ذاتها كانت ثابتة ومرعبة .. بدوت لحظتها كالتماثيل الخشبية التي تجسد معنى (الترصد) أو شيئاً ما لم أفهمه لحظتها .. ولكن أين الزمن وقتها ؟! عندما التقت عيني بعينك سقط الزمن صريعاً عند قدمي !! ولم أدر هل مر علي الأبد ؟! أم عدة آباد متجمعين !! حاولت السيطرة على انفعالي هذا والعودة إلى طبيعتي الأنثوية العادية .. وحاولت تحريك عيني من عليك إلى أي اتجاه أخر ، ومن ثم تجاهل نظراتك هذه .. لكن بلا فائدة .. كأن عقلي في واد .. وجسدي في وادي أخر .. بينما روحي تحلق حولي من كل جانب .. ربما كان وضعنا أشبه بتمثال خشبي يقف أمام تمثال شمعي تم نحتهما بيد إله خجول يعشق الفن والجمال الصامت !!

    ثم بدأت الأمور تتطور عندما تحركت أنت تجاهي ، وأنا لازلت مشدوهة ومترقبة ..

    حتى وقفت أنت أمامي وتفوهت بأغرب عبارة سمعتها في حياتي :

    ( أحبك .. لا أدري كيف ولا متى ولا حتى لماذا !!.. لكني أحببتك .. ولا أعرف شيئاً غير أنني أحبك .. من دون أن يكلل حبي لكِ بمعرفة اسمك أو كنيتك .. فقط أحبك لأني أحبك .. ربما تخلت عني الآن قواعد الذوق واللياقة وأساسيات المنطق بتعقيداته .. لكني بالفعل أحبك .. أنه أنتِ .. أنت حبيبتي التي بحثت عنها منذ تثاقلت بعبء الزمان والمكان .. )

    بعدما انتهيت من عبارتك ، تسمرت أنا على وقفتي محاولة استجماع قدر لا بأس به من عبارات السباب المحترمة والتي يمكن لأي أنثى أن تستخدمها لدرء أي محاولات لزجة لمن يحاول التحرش بعواطفها أو بأنوثتها .. لكنني دخلت دوامة ولدت بداخلي وأنا أنظر لعيناك .. نعم ، لقد سمعتك كلامك بعيني ، وتهيأ لي بأنك تتكلم بعينك أنت !! حاولت الاستنجاد بأحد من حولي لكي أحول اهتمامي عنك ، لكن أين ذهب الناس ؟! لا يوجد مكان آخر حولي .. كأنني أقف في بداية نفق قصير نهايته عند عيناك !!

    اختلطت مشاعري ، وحاولت البحث عن كلمة (لا) بداخلي لعلي أقذفها في وجهك بصرامة !! لكني فوجئت بجيوش عاتية مكونة من كلمة (نعم) تتحرك بداخلي بعزيمة وتحمل رايات بيضاء عليها صورة مبهمة لعيناك .. أنا أتعرض لغزو مباغت منك .. علي أن أفعل شيئاً ينقذني منك .. أي شيء .. لذلك قلت باندفاع في محاولة لصد ما يحدث :

    ( أحبك .. أنا أيضاً أحببتك .. بكل شموخ سأقولها لك ، دون مواراة مني أو محاولات حمقاء لإنكار الأمر !! أحبك بلا منطق ، وهذا هو منطقي الوحيد .. أحبك وأقولها بكلي وليس بقلبي فقط .. أحبك بروحي ، أحبك بعيني .. أحبك بعقلي .. أنه أنت (الآخر) مني والذي بحثت عنه .. الجزء المفقود مني منذ أن سرت على خطى القدر .. أحبك وأقولها الآن قبل أن تتدخل أي قدريات حمقاء وتبعدني عنك أنت .. حبيبي .)

    بعدما انتهى فمي من نطق ما لا لم اقدر على قوله بعقلي ، أصابني هلع .. أحسست بأن شخص أخر تكلم على لساني أنا ، لكن هذا الشخص هو أنا التي بداخلي .. لكنني شعرت بنقصان حاد في كرامتي .. وأصابني الذعر مما تفوهت به في هذه اللحظة .. ونظرت للأرض من فرط الخجل الذي اعتراني وقتها .. لكنك لم تسمح لي .. أمسكت يداي معاً بيد واحدة ، ويدك الأخرى تسللت إلى ذقني ورفعتها لتدخل عينانا في جولة أخرى إلى ذاك النفق الغامض .. ابتسمت لي ، ولاحظت دمعة تهرب من عينك وأنت تقول لي :

    ( حبيبتي .. لا تخجلي مني .. طيري عالياً ، لا تحني رأسك أبداً أمامي ) ..

    لا أدري متى اندمجنا معاً في حضن تسلل بخفة لاحتوائنا معاً .. ولا حتى قناعتي بما حدث ، هل هو كاف لكل هذه التداعيات ؟! »

لم يملك إلا أن يحيط ظهرها بذراعيه وهو يغمض عينيه تأثراً واحتراماً للواقعة التي جمعتهما معاً .. وبشكل ما حاول التعقيب على كلامها كتطور محتوم للحوار ، إلا إنه لم يجد ما يقوله .. وجاءت دمعة من عينيه كقاسم مشترك للحدث المروي وبما يحدث الآن .. الكثير حذروا من الانسياق وراء الجنون بسبب فداحة عواقبه .. لكنه لم يؤمن يوماً بهذه القاعدة ، من يؤكد أن ما حدث هو جنون مطبق ؟! لماذا يتوجب عليه أن يمر بمراحل جامدة عندما يتقابل مع حبه ؟! لماذا عليه أن يتبع نهج مرسوم بعناية يمهد التعارف أولاً ، ثم الاستظراف والتملق ، ثم المصارحة بالإعجاب ، ثم الحب ، ثم تبادل الحب بين الطرفين ؟! لقد أدرك إنها هي المختارة حتى قبل أن تقع عينه عليها !! ربما هو نداء الأرواح كما تقول الأسطورة التي تكلم عنها .. أو ربما هو سهم مسدد من الطفل الصغير العابث العاري المؤخرة المسمى (كيوبيد) !! هو راض تماماً عن تصرفه في هذه اللحظة التي كانت السبب في أن تجعل حبيبته في حضنه الآن .. بل هو راض تماماً عن الماضي والحاضر ، ويشعر بشوق لما يحمله القدر على طبق المستقبل المجهول .. لا شيء يهم .. لقد حدث تلاقي الأرواح كما آمن منذ أن تفتح عقله وأمسك وعيه مقاليد الحكم ..

إنها (هي) وحدها وكفى ..

(هي) وحدها ولا شريكة لها ..


 

أما عنها .. فكانت صامتة في حضنه .. الوطن الأعظم التي تفخر بالانتساب له ..

لم تحاول معرفة كم هي محظوظة به ، ولم تعيد تصور حياتها بدونه .. إنها أميرة وهو مملكتها ، وعرشها يكمن في عينيه .. كل نظرة منه هي حدود مملكتها .. وكثيراً ما شعرت أن المدى المعقول هو طرفين الكون !! كانت ترى أنه جمع مذاق الفردوس على شفتيه ، ثم دعاها أن تتذوقه من شفتيه في كل قبلة صادقة جمعتهما معاً ..

لعلها تشعر بامتنان صادق لكلمة (أحبك) والتي كانت أول ما تفوه كل منهما للآخر ..

تمنت أن تحكي للنجم إياه عن ما يجب أن يشعر به أثناء وجوده ، وتؤكد له على حتمية وجود كائن جميل يسمى (الحب) .. لعله يهدأ في رحلته السرمدية حتى يظهر شريكه الموعود ..

حتى (كيوبيد) .. كانت ستكافئه بصنع حلوى لم يذق مثلها في كافة الأساطير الإغريقية بما فيها جبال الأوليمب ذاتها .. حتى ولو كان هو طفل أرعن لا يعي تصرفاته كما يصفونه ..

رغماً عنها نزلت من عينها دمعة ولدت من بركان الحب الذي يعتريها في هذه اللحظة .. تنهدت بحرارة كرد فعل لما تشعر به .. لتفاجأ بصدره هو الأخر يطلق تنهيدة مماثلة ..

نظرا لبعضهما حيناً ..

ثم ابتسما .


 

* * * * *


 

كانت ليلة هادئة من ليال شهر (أغسطس) ..

السماء صافية .. والنجوم كثر وساطعة على غير العادة ..


 

كان يهرول وراءها في محاولة لملاحقتها ، بينما تحاول هي التواري خلف واحدة من الأشجار المتناثرة في أحدى الحدائق العامة ..

لم يدري سر إصرارها على تجربة هذه اللعبة التي شاهدوها كثيراً في الأفلام .. ففي النهاية سيتبادلان قبلة ساخنة أسفل أحد الأشجار وهما متواريان عن الأعين ، فلماذا الهرولة واللهاث إذن ؟!

عجيب أمر الإناث حقاً ..

فوجئ بها واقفة أمامه وهي تتطلع إلى شيء ما بعيد عن مجال بصره ، فاقترب منها ووقف ورائها وهو يتساءل عن إنهاءها للعبتها السخيفة بغتة , فأشارت له ناحية أثنين يجلسان معاً تحت شجرة ، الرجل يستند بظهره إلى جزع الشجرة ، والمرأة تستند على صدره بظهرها ..

تعجب لردة فعلها وسألها بلهجة محتدة :

  • « والآن ماذا ؟! ما الذي يجذبك إلى هذان ؟! »
  • « لا أعرف .. لكن أنظر كيف يجلسان .. تأمل كيف يكلمان بعضهما !! »
  • « وما الذي يثير التأمل في ذلك ؟! لابد ان (جدو) هذا يشكو إلى (تيتا) بحتمية تغيير طقم أسنانه ، أو ربما فاجأته آلام الظهر ويسألها عن حوزتها لمسكن آلام قوي .. أو ربما يتلو عليها وصيته كنوع من الاحتياط الواجب في هذه المرحلة العمرية المتقدمة .. هل تنوين إضاعة وقتنا عليهما ؟! دعينا نكمل حتى ركضنا حتى نصل إلى مكاننا المعتاد للـ ... »
  • « هل هذا هو همك ؟! كف عن الثرثرة ولو للحظة من أجلي أنا .. أنظر إليه وهو يخاطبها .. لم أرى هذه النظرة منك طوال سنة كاملة هي عمر علاقتنا معاً .. لم أسمع منك سوى رأيك في نتائج مباريات كرة القدم المحلية والدولية ، وتتكلم بنهم وعشق عن السيارات الحديثة وأي واحدة منهم تستحق أن تقودها في المستقبل .. تعلم منه كيف تجعلني أصل إلى إحساسها هذا .. أنظر إليها وهي تكاد تذوب في حضنه على الرغم من تقدمهما في السن .. هذه امرأة عاشقة لو كان لك أن تفهم في ذلك .. بينما العشق بالنسبة لك هو تبادل قبلات ساخنة ممزوجة برائحة سجائرك الكريهة وبقايا الطعام في فمك ..

    حاولت طوال خطبتنا أن أتصور حياتي معك وأحاول بشتى الطرق أن أضيف عليها رتوش تفلح في أن تجعلها مقبولة إلي أنا .. تصورتك أميراً تعرف شيئاً عن النبل والمروءة بدلاً من التشدق بترهات فارغة عن ذكورتك وفحولتك والتي يتصور عقلك الأبله أنها كافية لإسعادي .. بينما حاولت أنا أن أجرك إلى جانب عاطفي روحاني ربما أفلحت في تغييرك للأفضل ، بينما تقاومني أنت بحجة أني أفرض سيطرتي عليك .. لقد أيقنت الآن من استحالة إكمال علاقتنا معاً .. من الصعب علي أن أتخيل نفسي مكان هذه السيدة العجوز التي تتهكم عليها بكل فجاجة .. حتى عقلي يرفض تصور هذا الوضع بعد عشر سنوات على الأقل وليس أربعين عام كما يبدوا على هذان العاشقان أيها الهمجي .. ربما وجودهما هنا عبارة عن رسالة واضحة من القدر .. أنت ليس لي .. وأنا لا أحبك .. لقد انتهت علاقتنا إلى الأبد .. لقد انتهت بلا رجعة .. كم كنت حمقاء عندما وافقت عليك بدون حب . »

  • « هل انتهيت من هراءك ؟! دعيني أخبرك شيئاً ما قبل أن أغرب عن وجهك : كفاك أحلام وبعداً عن الواقع وتشبث أحمق برومانسية سخيفة .. أنا لم أحبك يوماً ، ولم أنوي أبداً لأن أحبك ، لقد اشتريتك من أهلك ودفعت الثمن لأجل أن أجد ونيس في بيتي يقوم بصنع الطعام وغسل ملابسي وإرضائي جنسياً قبل النوم أو في أي وقت أشاء .. هذه هي وظيفتك طوال حياتك .. سواء معي أو مع غيري .. هذه هي الحقيقة التي تتعامين عنها .. وكان اختياري لكِ كان نتيجة إعجابي بجسدك الممشوق ومقبولية ملامح وجهك .. ومن أجلهما فقط تحملت سخافة وغرابة طلباتك البلهاء ، والآن تريديني أن أنتبه وأقلد مومياء جالسة مع كائن (أحفوري) ؟! هل أنتِ عاقلة بالأساس ؟! »
  • « أرجوك .. أرحل فحسب »

نظر لها ملياً وعلى وجهه ملامح القرف ، ثم خلع (دبلة) ذهبية من يده اليمنى وألقاها في وجهها .. ثم اختفى من المكان .

لم تعيره اهتمام وأدارت ظهرها حيث ركزت بصرها على العاشقين السابحين في عالمها الخاص .. ووجدت العجوز يتأمل السماء بنظرة شاردة ، ولم تمنع من توجيه نظرها إلى السماء .. فوجدت نجم وحيد في هذا الاتجاه .. ثم تطور الأمر إلى حوار بين العاشقين .. لتجد أن فضولها الأنثوي تغلب عليها ، فاقتربت وجلست في الناحية الأخرى من الشجرة محاولة لاستشفاف أي شيء من الحوار الذي يدور .. ليس بسبب التصنت .. إنما كمحاولة أخيرة لكشف سر ذلك اللغز الغامض ..

سر يدعى اعتباطاً بـ (الحب) .

12‏/5‏/2010

تداعيات أسطورة (الذي بعد ..) .

  • « سرطان الرئة . »

قالها الطبيب برتابة وهو ينظر إلي الأشعة بنظرة فاحصة سريعة ..

بينما أجفل الشاحب الذي يجلس أمامه من مفعول عبارته المقتضبة ..

كان يتوقع مرض صدري من الأنواع المنتشرة هذه الأيام ..

ولكن .. سرطان الرئة ؟!

  • « هل هناك أمل يا (دكتور) ؟! »

مط الطبيب شفتيه وهو يتحاشى النظر إليه بحكم خبرته المهنية في هذه الحالات :

  • « للأسف .. المرض مستشري بداخل ثلثي الرئة اليمنى .. لقد جئتني متأخراً جداً .. أعانك الله على بلاءك . »

أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ..

حاول أن يبحث عن ثقب منطقي في جدار الواقع يهرب بواسطته من مرارة الحقيقة ..

حتى أنه تمنى أن يتخلى وجه الطبيب عن الجدية المبالغ فيها ويصدر ضحكة رقيعة قائلاً :

  • « هأو أو .. دخلت عليك يا حلو .. عليك واحد .. نياهاهاهاهاه .. »

إلا أن عقله رفض حتى تخيل الصورة الهزلية .. هذه الملامح لا تعرف للهذر طريق .. ربما أشبه بصورة (مجرمي الحرب) كما يتخيله عقله الباطن !!

  • « وماذا عن العلاج الكيميائي ؟! »

قالها وهو يتشبث بغريزة بقاءه لآخر لحظة .. من يدري !! فهو يؤمن بأن هناك أمل تحت كل حجر ..

  • « هل تأملت التحليلات والأشعة ؟! رئتيك تحولا إلى قطعة أسفنج سوداء جافة .. حالتك متأخرة جداً كما سبق وأن أوضحت لك . »

مازال عقله يرفض التصديق ..

في أي لحظة سيتعالى صوت المنبه المزعج ليعلن وقت استيقاظه من أحلامه الطلسمية والعودة إلى الواقع كعادته كل يوم ..

كل شيء يبدو كالحلم في هذه اللحظة ..

لم يتصور أن الواقع المفرط والمبالغ فيه يوازي خزعبلات الأحلام ..

  • « ولكن .. أنا مازلت في مقتبل العمر .. كيف حدث هذا ؟! ولماذا أنا بالذات ؟! »

تقابلت عيناه مع عين طبيبه لأول مرة ..

وبدت عيناه غير مرحبتان بوجوده في العيادة أكثر من ذلك .. هناك مرضى سخفاء آخرين ينتظرون النطق النهائي في قضية وجودهم في هذه الدنيا .. أما هو فقد كان نصيبه حكم مباغت بالإعدام !!


 

تحامل على نفسه ووقف على قدمين متراخيين ، وودع طبيبه بكلمات مبهمة لم تلقى اهتماماً أو رداً منه ..


 

* * * * *


 

بدأ يستسلم للأمر بعد خطوات من العيادة ..

وأخذ يفكر في تداعيات ما بعد الموت ..

المجهول القادم ..

دون أن يدري .. وجد يده تمتد لا إرادياً إلى جيبه وتخرج بعلبة سجائره !!

تأملها بخوف للحظة ..

ثم ابتسم بسخرية قائلاً :

  • « يا للعبث .. ؟! وكأن المرء سيموت مرتين !! »


 

وأشعل سيجارته مستمتعاً ..

بينما ولد في عينيه بريق استهزاء عميق بأساطير ما بعد الموت .

8‏/5‏/2010

الخروج من الشرنقة (2) ..

كانت حياته بائسة مؤخراً !!

بل كان وجوده مرادفاً قوياً لمعنى كلمة (بؤس) ..

فقد كل شيء ذا قيمة من حوله (أبويه ، وظيفته ، أصدقاءه ، حبيبته ) ..

ومؤخراً فقد ثقته بنفسه !!

لم يتبق أحداً بجواره لكي يشكو له همه .. فقرر اللجوء إلى (الله) ..

كان يحادثه ليلاً ونهاراً ..

يتكلم معه كأن صديقه في بعض الأحيان ..

ويتعامل معه على أنه عدوه في معظم الأحيان ..

كان من المعتاد أن يناجي ربه قائلاً :

  • « أرأيت يا (الله) ما حدث لي ؟! لم أعد أملك شيئاً سواك .. فهل لك أن تتدخل قليلاً يا (الله) وتغير تعاستي وبؤسي وشقائي ؟! لماذا صمتك يا إلهي ؟! هل تريدني أن أذهب إلى بيوتك وأتضرع أمام رموزك ؟! أولست في كل مكان ؟! أفعل شيئاً .. أرجوك يا (الله) .. تعبت ، ولم أقدر على الاستمرار .. فأنا ألومك من فرط محبتي لك .. ولم أفقد الإيمان بك ولو للحظة .. أنا لا شيء بالنسبة لك يا (الله) .. ولكنك كل شيء لي .. أرجوك أفعل شيئاً .. أرجوك . »


 

بعد انتهاءه من الابتهال والتضرع حسب طريقته .. قام بفتح عينه ، وتوقع أن تتغير الدنيا من حوله إلى الأجمل .. ربما أشبه بالأسلوب الساحر والخالب للألباب في الأفلام الخيالية ..

ولكن ..

لم يحدث شيء ..

لا يزال في صالة شقته الصغيرة ..

محاطاً بجدران كئيبة تحوي خربشاته الطفولية العابثة ..

التلفاز العتيق يصدر أصوات مبهمة تحكي أنباء عن مصرع العشرات في انفجار ما في منطقة ما .. يليه نبأ عن مقتل المئات بسبب إعصار عاتي في منطقة يسكنها الفقراء من دولة ما ..

أطرق رأسه في ذل وهو يتمتم في ضعف :

  • « ويبقى الوضع كما هو عليه .. لا فائدة . »


 

وسولت نفسه في الدخول إلى نوبة بكائية حارة ..

لكنه سئم من الضعف ..

فرفع رأسه إلى سقف الغرفة بغضب قائلاً :

  • « حسبك .. ألم تمل بعد من هذا العبث ؟! تشاهدنا وترانا بلا إحساس ؟! نتألم ونتعذب هنا ، وأنت كما أنت .. تتفاخر بلا كلل بذاتك العظمى وكمالك المثالي !! بينما في كل لحظة تتعالى صرخات المعذبين أمثالي .. قل لي .. كيف يبدو الأمر بالنسبة لك ؟! هل أنت بعيد لدرجة أن لا تصلك دموعنا ؟! أم تتلذذ بعذابنا ؟! هل أنت موجود ؟! أم وجودنا واه بالنسبة لك ؟! هل نحن مجرد أحلام تتشكل لك ؟! ما أنت ؟! قل لي . أجبني .. أرحني .. أعطني سبباً واحداً لما يحدث .. دلني على إشارة واحدة تثبت وجودك !! »


 

(لم يحدث شيء !!) ..

  • « غريبة .. لم تكلف نفسك بتسديد عقاب لي يثبت غضبك علي .. حتى غضبك كان سيبدو لي دليلاً على وجودك .. لكنك تكاسلت عنه ، هل ذهبت أيام مجدك بلا رجعة ؟! أيهل جفت أمطار طوفانك ؟! أم خمدت حركة زلازلك وتجمد رصيد براكينك ؟! أدعوك لأن تغضب علي .. قم بسخطي حتى لأتأكد منك .. أفعل شيئاً .. يقتلني صمتك .. فأنا لم أعد أحبك .. ولا حتى أخافك .. ارني قسوتك التي تغنيت بها .. أتحداك لأن تفعل شيئاً .. والآن . »


 

(نفس الوضع .. لم يحدث شيء !!) ..

تراخت قواه من فرط تشنجه السابق .. تكور على نفسه في وضع جنيني ودخل في نشيج واهن ..

  • « أعلم أنني لا شيء .. فلا أنا صاحب نفوذ ولا مال ولا شهرة .. أنا لا شيء بالنسبة لك .. ولا شيء حتى بالنسبة لنفسي .. حاولت أن أفعل شيئاً .. ولكني ضعيف يا (الله) .. وقضيت عمري كله في البحث عنك في كل مكان .. ولكني لم أجدك .. سامحني إن تبجحت عليك .. ولكنه حقي .. فما يحدث لي لا أملك عليه صبراً .. وأنت لم تمر بظروفي لحظة واحدة .. ظننت أنني أقوى منك في صبري وتحملي .. ولكني أعترف بضعفي .. سامحني أرجوك .. سامحني .. »


 

ظل يردد عبارته الأخيرة بصدق .. حتى غالبه النعاس في وضعه هذا .. فنام على رقدته ..


 

* * * * *


 

مسكين أنت ..

تعبت من أجل الوصول إلي ..

بحثت في كل الأنحاء .. ولم تمل من البحث عني ..

حاولت التعامل معي وكأني مثلك وعلى هيئتك وطبيعتك ..

أنا صانع الأكوان كلها بهيئتها ودقتها .. وظننت أنت بمحدودية صنيعي .. فلا الشمس أكبر الموجودات كما يعتقد عقلك .. ومع ذلك ليس بمقدروك أن تنظر إليها ..

ولا الذرة أصغر الموجودات كما يظن عقلك .. ومع ذلك لا يمكنك أن تراها ..

صنيعي متعاظم أيها المسكين .. فلا يوجد وحدة عظمى .. ولا وحدة صغرى ..

ومع ذلك تمني نفسك في أن ترى صانعه ملء العين وتجلي الرؤى !


 

وحاولت الوصول إلى بالرتابة ..

وأوصلتك قناعتك بأنك ستصل لي عن طريق أفعال وكلمات بعينها ظناً منك أنها وسيلة سهلة لأمتثل أنا لطلباتك وأمانيك !!

وفي مخيلتك أن محرك الأفلاك والمجرات والأجرام كلها يقبع في شوق ولهفة لحركة يسيرة منك ..

أتظن بأن بضعة كلمات تقولها أنت كفيلة بتعظيمي !

أو بضع أحرف تكفي لاحتوائي أنا وما صنعت !

أيها المسكين ..

أنا صانع العظمة كلها .. ولا احتياج لي بها ..

فهي منالكم أنتم ..

فأنا لا أصف ذاتي – أبداً – بما أصنع ..


 

تبكي إلي ..

وتشكو إلي مني ..

وتلومني على ضعفك ..

وتطلب بتذلل بأن أصنع شيئاً حيالك ..

ولم تجرب مرة أن تشاء صنعاً .. بل تتحجج بمشيئتي أنا ..

تقف في مكانك ساكناً .. وتطلب مني أن أسري إليك بجميع الأنحاء ..

ونسيت أن مشيئتي أنا من مشيئتك ..


 

أيها المسكين ..

أتيت لي طالباً طامعاً ..

و راجياً آملاً ..

ثم خائفاً مذعوراً ..

وبعدها غاضباً حانقاً ..

ولم تجرب أن تأتي إلي تواصلاً بذاتك لذاتي ..

لم تشأ أن تجيئني كما أنت ..

بل حاولت أن تصل لي عن طريق غيرك من المساكين ..

وفي ظنك بأن الطريق إلى صانعك يمر بطرقات صنعها آخرين ..

تعالى إلي ..

أصنع طريقك بطريقتك ..

هلم إلي ..

فلا يوجد حاجزاً أمام ذاتي وذاتك ..


 

أيها المسكين ..

أتعبك البحث عني في كل الأنحاء ..

ولم تجرب أن تبحث عني بداخلك .