10‏/4‏/2012

الطريق من اللاشيء .. إلى كل شيء..!


في تردد ووجل ، ذهب أحد الشبان التعساء في الحياة إلى حكيم زاهد يسكن في بقعة معزولة عن التحضر السائد في مجتمعه .
وعندما تقابلاً .. اغرورقت عين الشاب بالدمع وهو يتكلم أمام الحكيم في تأثر جلي:
-          « أيها المبجل .. لقد ذهب مني طعم الحياة ! أنني أحيا لمجرد أني حياً ، لكن دون أن أحيا حق الحياة .. البؤس هو طريقي ودربي .. ويفترش الأبدية بلا نهائية أمامي ، والفشل والاحباط هما الماضي الذي يطعنان ظهري .. بينما الحاضر هو مجرد هوة سحيقة تحاصرني وتلازمني في كل وقت .
والناس من حولي هم أعداء في حالة استعداد ، كلما تلاطفت مع أحدهم وصادقته ، كلما كانت طعنته نجلاء ودامية بلا دماء ..
وحتى عندما أقرر الاختلاء بذاتي بعيداً عن الناس ، لأجد أن ألد أعدائي هو أنا !
أما الغضب .. فهو ذاك الوحش الكاسر الذي يتربص لي في كل مكان ، رابضاً ما بين النور وظله .. يفترش السماء والأرض .. نظرة واحدة من عينيه المخيفتين كفيلة بذبح كل جنين أمل ينمو في رحم الحياة .
سيدي .. ما عدت أفهم السبب في الحياة .. لقد تشاركت أنا وكل ما حولي في اغتصاب هذه الغريزة !
وجئت إليك لكي تدلني على طريقة تعضدني لكي أبقى على حياتي ؟! »
بمجرد أن أنهى الشاب كلامه ، مط الحكيم شفتيه في فهم عميق .. وظهرت ملامح الحكمة الدافقة في وجهه ، ومن عيناه تأجج بريق خاص وغامض .. ثم تكلم ببطء قائلاً ..
-          « يا لك من مسكين وجاف ، أنت ببساطة أحمق أعمى قابلته منذ زمن بعيد . »
-          « ما الذي تفوه به فمك أيها العجوز المخرف ؟! أهذه هي طريقتك في الرد على طلبي ؟! بإهانتي ؟!»
أبتسم الحكيم .. ثم أردف في ود حقيقي:
-          « أعذرني أيها الشاب ، لكنني لست معتاد على مخاطبة الناس ، فأنا لم أخالطهم منذ أمد طويل .. لابد أنك متعب من رحلتك لكي تصل إلي .. هل يغمرك الجوع ؟! »
تعجب الشاب من أسلوب العجوز الغير متناسق في مجراه ، لكنه نسى الإهانة بمجرد ذكر الجوع .. فقد كان جائعاً لدرجة أن معدته تصرخ لاعنة وسابه من فرط جوعه بدون حياء أو تحفظ .
-          « في الحقيقة أني جائع جداً .. لكني لا أريد التطفل عليك في أول لحظاتي هنا ..»
-          « بل هذا هو حقك يا بني ، وأرجوك أن تكف عن سخافات الرسميات ، فهي أشد ما أكرهها في لقاءات الأخرين مع بعضهم ..
لا تتوقع الرفاهية هنا على أية حال .. فلا يوجد لدي مصدر للطعام هنا سوى نخلتي العزيزة .. يمكنك تسلقها واحضار ما يحلو إليك من تمر .. »
نظر الشاب إلى طول النخلة الشاهق ، فبدت على ملامحه علامات التفكير والتردد .. ثم سأل الحكيم :
-          « وأنت ؟! ألن تأكل معي ؟!»
-          « لا .. فقد تناولت هذا الصباح خمس تمرات ، وهم يكفونني حتى اليوم التالي .»
-          « غريبة !! على أية حال يمكنني التقاط بعضاً من التمر المتساقط على الأرض طالما سأكل وحدي»
-          « كما شئت »
ذهب الشاب لينتقي التمر من الأرض ، بينما يرمقه العجوز في نظرة عميقة تحوي شيئاً من الاستنتاجات ، لقد أدرك لتوه عيبا رهيباً في سلوك هذا الشاب ..
لكنه آثر الصمت في حكمة وتروي .

* * * * *

بعد انتهاء الشاب من سد حناجر جوعه ، جلس بجوار العجوز توطئة لبدء حوار يحوي خلاص خبراته في الحياة .
إلا أن الحكيم أشار له بكفه لكي يصمت .. فصمت الشاب .
ومرت اللحظات ..
والساعات ..
والحكيم صامتاً كالظلال ..
والشاب ينتظر .. وينتظر ..
حتى بلغ الملل مداه مع الشاب .. وقرر قطع الصمت القابض هذا في عصبية قائلاً:
-          « لقد قاربت الشمس على المغيب .. وقريباً ما سيأتي الظلام علينا ، وأنت تجلس هكذا شاخصاً بعينك إلى حيث لا أعلم .. هل قررت أن تفعل شيئاً بدلاً من صمتك المزعج هذا ؟! »
أدار العجوز عينه ببطء نحو الشاب ، وابتسم في هدوء ، ثم قال :
-          « هل كنت تراني صامتاً طيلة الوقت ؟! عجباً ..! عموماً أنت محق .. فقد جاء موعد نومي .. أتمنى أن أراك غداً أفضل مما رأيتك اليوم .»
صعق الشاب من رد وفعل الحكيم ، إذ رآه يتمدد على الرمال ببساطة متخذاً وضعاً النوم بعدما أنهى عبارته السابقة !
وتمتم ساخطاً وهو يلعن سوء حظه الذي أودى به للجوء إلى رجل مخبول يطلب من المساعدة ..
وحاول التمدد على الرمال بجوار الرجل لكي ينام هو الأخر .. فقد كان متعباً ومنهكاً من السفر إلى حيث يوجد الحكيم ..
إلا أن الرمال والذباب أخذا منه جذوة الولوج إلى عالم الأحلام .. فأخذ يشيح بيديه بعصبية محاولاً ابعاد الذباب عنه .. حتى وصل به الحال إلى البكاء من شدة الغيظ والحنق ..
بينما تنفرج شفتا الحكيم بجواره عن ابتسامة خافتة وسط الظلام الحالك.

* * * * *

في صبيحة اليوم التالي استيقظ الشاب من نومه عكر المزاج .. بينما قسمات الارهاق تتماطر على وجهه في وضوح ..
وحينما أبصر الحكيم جالساً أمامه .. قام من رقدته في خمول وتوجه إليه ..
رمقه الحكيم صمت ، ثم أشار الشاب إلى وجهه في حركة دائرية فهم منها العجوز أنه يسأل عن ماء لكي يغسل به وجهه .. فبادله الحكيم الصمت وهو يشير إليه حيث يوجد البئر ..
حينما عاد الشاب من البئر .. بدا منكسراً ومهيضاً وهو يجلس أمام الرجل رامقاً الأفق وهن .
في صمت تأسف الحكيم لحال الشاب .. فقال مشجعاً :
-          « لا تستسلم يا بني .. أكثر من صمتك ، فهو كفيل بشفاء الروح .. لتكن شفتيك هي ما تصمت فقط .. وتكلم أنت مع ذاتك ، وروحك ، جسدك ..
     الكثيرين من الناس لا يدركون الفرق ما بين الذات والروح والجسد .. هناك من كانت أرواحهم هائمة ومبعثرة بداخل جسدهم .. وكثير من الأجساد كانت ذليلة أهواء الروح .. لذا عندما تتحد روحك مع جسدك .. تولد ذاتك ..
الذات للأحياء فقط .. فأبحث عن ذاتك ولا تمل من السعي ورائها ..
تكلم يا ولدي .. تكلم ولا تخجل من أي حوار يولد بداخلك .. تكلم بينما لا تسمعك أذنيك .. بل كلك ..
حاول يا بني .. »
في ضعف هز الشاب رأسه .. ورغماً عنه أدمعت عيناه في تأثر من قوة كلمات الحكيم، ورقة نبراته ..
فأطلق زفرة حارة من صدره .. وأغمض عيناه .. وبدأ في شق الظلام الذي بداخله .

* * * * *

عندما فتح الشاب عينيه ، تفاجأ من أنه قضى وقتاً طويلاً في جلسته هذه ..
لاحظ هذا حينما رأي ظله ناعساً على يمينه بينما كان أمامه وقتما قرر تنفيذ نصيحة الحكيم !
لقد قاربت الشمس على المغيب ..
لكنه لم يشعر بجوع قارص مثلما كان بالأمس ..
تعجب من أمر نفسه ، لكنه – على الرغم من ذلك – شعر بالتفاؤل يكتنفه .
-          « ألن تأكل اليوم ؟!»
نظر الشاب وراءه ليرى الحكيم جالساً ببساطة كعادته ، ربما لم يشأ أن يجلس بجواره لكي لا يزعجه في أولى رحلات تبحره في نفسه !!
ابتسم الشاب لأول مرة منذ أن قابل الحكيم .. ثم قال :
-          « لقد مضى الكثير على ميعاد وجبتي الأولى والثانية .. لكن لا بأس ، لن تمانع بطني في استقبال بضع حبات من التمر على أية حال .. وماذا عنك ؟! ألن تأكل ؟! »
لم يجب العجوز .. انما اكتفى بالابتسام في وجه الشاب الذي قال:
-          « أعذرني .. لقد نسيت أمر الخمس تمرات .. »
-          « لا عليك .. يمكنني اليوم التزود ببضع تمرات أخريات .. من المستحيل أن يصاب المرء بالتخمة الفادحة بمجرد تناوله حبات تمر ..»
-          « قرار حكيم مثلك سيدي .. أستسمحك حتى أتسلق النخلة وأعود بعد لحظات ..»
هم الشاب بالنهوض لكي يحضر التمر .. إلا أن صيحة هادرة جاءت من فم الحكيم أوقفته :
-          « توقف عندك .»
أجفل الشاب .. وأرتبك في جلسته ، وتسارعت أنفاسه وهو ينظر إلى الحكيم الذي اقترب منه وهو يقول في حدة :
-          « إياك أن تفضُل أحد على نفسك أبداً .. حق نفسك عليك هو أهم من حق الأخرين عليك .. أعط لنفسك الفرصة للارتقاء .. لهذا وصفتك بأنك أكثر العميان حمقاً حينماً قابلتك .. أنت لا ترى .. لا ترى نفسك ، ودائماً ما ترى الأخرين وتفضلهم عنك .. أنني أكاد أن أسمع صراخ ذاتك شاكية من قسوتك عليها .»
-          « ولكن .. إن فعلت ذلك سأكون أنانياً مفرطاً في حب نفسي .. وأنا أمقت الأنانية في تصرفات الغير ..»
-          « الأنانية هي العكس يا (أعمق).»
-          « وكيف هذا؟! »
-          « لو أنك تسلقت النخلة من أجل الثمار في أول مرة لأنك ستأكل وحدك ، بينما ستحضر التمر من الأرض لأني سأشاركك الطعام .. فهذه هي الأنانية والخسة . »
بدت معالم الفهم تغزو ملامح الشاب .. وابتسم في خجل أمام الحكيم ..
وبدا متردداً لوهلة .. فسأله الحكيم :
-          « ماذا بك ؟! أهناك شيء لم تفهمه ؟!»
-          «نعم سيدي ..»
-          «وما هو ؟!»
-          ما معنى كلمة (أعمق) التي وصفتني بها منذ قليل ؟!»
ابتسم العجوز وهو يقول في مداعبة :
-          « لا معنى لها .. مجرد مزيج هادئ ما بين كلمة (أحمق) و (أعمى) .. لكنك على الطريق الصحيح للشفاء من علة العمى .»
-          «وكيف ذلك ؟!»
-          « رغبتك الوليدة في التبصر ، تمردك على الجهل وسعيك للفهم والإدراك قد بدأ بمجرد السؤال عن مجرد كلمة .. »
بامتنان قال الشاب :
-          «أشكرك سيدي ..»
لم يجب الحكيم .. إنما ابتسم وهو يشير له بأصبع السبابة إلى أعلى مشيراً إلى قمة النخلة .

* * * * *

بعد الانتهاء من تناول التمر .. جلس الشاب والحكيم صمت ..
لقد أدرك الشاب أن هذا هو الوقت المخصص للحكيم للتحدث مع ذاته .. فاحترم رغبته وأثر الصمت ..
إلا أن الحكيم أثار دهشته حينماً تحدث قائلاً:
-          « هل تدرك الفرق ما بين تمر الأمس وتمر اليوم؟!»
-          « لا سيدي .. لم ألحظ اختلافاً قط في الطعم .»
-          « ليس من الضروري أن يكون الفرق في الطعم .. هناك أوجه عديدة في الاختلافات والفروقات .»
-          « كيف ذلك يا سيدي ؟!»
-          « ما أكلته بالأمس كان مجرد عبء على النخلة .. »
لم يتكلم الشاب ، إنما ظهرت على ملامحه اللهفة لأن يكمل الحكيم حديثه .. فتابع الرجل:
-          « كل ثمرة تأخذ غذائها من الشجرة منذ أن تتكون على الأفرع .. وحينما يكتمل نمو الثمرة ، فإن الفرع يلفظها ويجعلها تتساقط من عل حتى تأخذ حبة تمر أخرى نصيبها في الغذاء من (ذات) النخلة .. وإن لم تقم النخلة بهذه الفعلة لتدللت الثمرة ، وكثر غذائها وأصابها التخمة السكرية وتخطت المسموح به بكونها تمر .. وتحولت إلى شيء ما خارج القاعدة المعروفة .. شيء شاذ ومنفر ، على الرغم من حلاوته ..
هكذا هي أفكارك يا ولدي ..
لا تدع أفكارك تتخمر في رأسك .
أخرجها كلما نضجت .. لتستطيع أن تنشغل بفكرة أخرى بنفس الهمة والتركيز ..
هل أدركت الفرق يا ترى ؟!»
في امتنان وتواضع هز الشاب رأسه ..
وصمت الحكيم ..
وصمت الشاب بدوره ..
بينما كان كل منهما يتكلمان إلى ذاتيهما بحماس متصاعد ..
حتى جاء موعد النوم ..
فناما.

* * * * *

بهدوء فتح الشاب عينه ، ليغلقها مرة أخرى من قوة وميض نور الصباح .. وفتحهما مرة أخرى حينما اعتاد الوهج الساحر ..
توجه إلى البئر كي يغتسل ..
بعدها توجه إلى حيث يجلس الحكيم ..
بعد تبادل التحيات .. استشف الحكيم هدوء ملحوظ في ملامح الشاب ..
فداعبه قائلاً :
-          « كيف حال الرمال والذباب معك بالأمس؟!»
-          « لعلي لم أشعر بهما سيدي .. كان الأمر غريباً عني ، فقد ذهبت في غطيط عميق بمجرد أن قررت النوم ! ربما لم يكن هناك ذباب بالأمس !! بينما بدت رمال الصحراء كأنها فراشاً وثيراً.»
-          « فراش وثير؟! جميل هذا التعبير .. لكن ما حدث هو أن ذاتك قررت الكف عن التمرد المدلل .. لقد قرر جسدك التلاحم والاتحاد مع المنحنيات الرملية ..
أنه شعور غريب عنك ..
الشعور بالرضاء ..
حينما ترضى عن ما كل بداخلك ، وتبدأ في الاعتقاد بذاتك ولا تلفظها .. فأنك ستشعر بالرضاء – أيضاً – عن كل ما هو خارجك ..
استمر في الرضاء أكثر عن نفسك .. وستجد أن كل ما هو حولك جميل .. جميل بحق .. مثلماً قلت أنت عن الرمال إنها وثيرة بكونها فراشاً لك .
أما عن الذباب ..
فالمكان هنا لا يخلو أبداً من الذباب ..
لكن بكونك صافياً في يومك .. فقد صفا نومك ..
ولم يعد الذباب مزعجاً بالنسبة إليك .. لأنك لم تلتفت إليه بالمرة ، ولم تجعله ناغص لهدفك .
كذلك هي المشاكل في حياتك يا ولدي .. لا تعطها أكثر من حجمها أبداً ..
لا توجد مشكلة باقية إلى الأبد .. ولن توجد – أبداً – هذه المشكلة ..
فحاول التعايش مع نفسك في كل الظروف .. وعليك أن تؤمن بأنك ستتخطاها يوماً ما ..
عليك بالرضاء والصفاء ..
ثم تدخل المرحلة الأخيرة : الرضاء الصافي.
عندها ستكف عن التذمر والتمرد السخيف .
هل فهمت يا ولدي ؟!»

* * * * *
في المساء ..
كان الشاب يجلس بجوار العجوز وقد قررا التسامر مع قبل النوم ..
الليلة كانت هادئة بحق .. ناسمة العليل رائقة السماء ..
كان الشاب يشعر بالتغيير يسري في دواخله .. ربما إحساس جديد بالنسبة لماضيه .. لكنه قرر أن يبقيه طيلة حياته ..
ما أجمل أن يكون كل شيء جميلاً ..
-          « سأجعلك تمر بتجربة لن تنساها .. »
هكذا قطع الحكيم الصمت ، فالتفت الشاب صائغاً صاغراً ..
فوجده يحمل أنبوباً زجاجياً بداخله شمعة يقارب طولها طول الأنبوب نفسه .. بينما في الربع الأخير من الأنبوب يوجد ثقبين متقابلين ..
تعجب الشاب واكتنفه الفضول لمعرفة ما هو قادم ..
وضع الحكيم الأنبوب أمام الشاب ، وأشعل الشمعة بداخله .. ثم قال للشاب :
-          « والآن .. كما أعتدت أن تتحدث مع ذاتك قبل النوم .. عليك أن تتحدث اليوم مع وهج الشمعة ..
النار ..
خذ وقتك ، تأمل كيفما شئت ..
ولنا حديث بعدها ..»
امتثل الشاب ، وشحذ حواسه وهو يرمق اللهب الهادي ..
النار ..
تلك الراقصة اللاهبة ..
سر الكون الأزلي ..
ذاك اللغز الذي يرفض الإفصاح عن كونه ..
صرخاتها المتوعدة تتردد في صمت :
لا تقتربوا مني كثيراً وإلا هلكتم ..
ولا تبتعدوا عني كثيراً وإلا هلكتم ..
في قربها الدفء .. والشبع ..
وفي ملمسها الويل .. والهلع ..
بالقليل منها يولد النور ..
وبالكثير لا مناص من الخراب ..
هي عدو الظلمات وغريم الدجى ..
ورفيقة الظلال وصديقة الرؤى ..
هي النار ..
فجأة بدأ الوهج يهتز بشدة .. فتابع الشاب بكيانه تأملاته ..
النار تنادي :
أرقصوا من حولي وهللوا ..
أصرخوا وأنا في وسطكم ..
لا تخشوا برق أو رعد ..
فكلهم أولادي ..
صادقوني وأنا صفراء ..
وحاذروا زرقتي .. فهي دليل على شدتي ..
ظفر من كنت أنا في يده ..
وهلك كل من ارتمى في أحضاني ..

النار تبكي وترتجف ..
مثلها كمثلنا .. تخشى السماء ..
وماء السماء ..
أنها تترجى السماء بالدخان ..
صلوات وابتهالات إلى السماء ..
أيتها السماء .. إليك عني بالماء ..
أيتها السماء ...
فجأة انقطع تأمله ..
لإنه لم يعد هناك نار ..
لقد اختفت فجأة ..
انطفأت الشمعة بلا سابق انذار ..
عندما تساءل الشاب بعينه إلى الحكيم ، أشار الحكيم في صمت إلى الثقبين المتقابلين ، ففهم الشاب على الفور ما حدث ..
لقد انطفأت الشمعة عندما تساوت في حذا الثقبين بفعل تيار هواء طفيف جداً..
إلا أن الشاب لم يصدق نفسه ..
لقد تحدث إلى النار ..
وسمع حديث النار !!
تكلم الحكيم في هدوء احتراماً للصفو الروحاني الذي يتملك الشاب :
-          « ما شعرت به ومررت به الآن هو ملكك وحدك ، لا تحكي لي عنه ..
أريدك أن تلتفت جيداً إلى هذين الثقبين .. هل تدري إيلام يرمزا ويمثلاً؟!»
أومأ الشاب برأسه نافياً معرفته .. فأكمل الحكيم قائلاً :
-          « برغم تفاهة حجم الثقبين بالنسبة للأنبوب ، إلا أنهما سمحا بإطفاء وهج شمعة يافع ..
إنهما يمثلان الغضب في داخلنا ..
أي ثقب صغير بداخلنا يسمح بعبور الغضب ، فهذا يعني تدمير الكثير من القيم في لحظة مفاجئة ..
إياك والغضب بلا مبرر ..
وإياك من الغضب المبرر ..
لا تغضب ..
كنت كالأنبوب يحوي الهواء بداخله .. لكنه لا يسمح بأي هواء خارجي يفسد كل ما في الداخل ..
لكي تصلح يا ولدي .. حاول أن تصنع عرينك الخاص ..
ليكن بداخلك :
عرين الغضب.
دعه يترعرع وينمو .. تحت إشرافك وسيطرتك ..
ليكن الغضب حليفك .. لا عدوك ..
ليكن الغضب ربيباً لديك .. لا طريداً أو شارداً يصعب السيطرة عليه .
هكذا يا ولدي انتهت مهمتي ..
ولك أن تختار طريقك الصحيح ..
وتذكر أن دائماً ما يبدأ طريقك مما هو تحت قدميك ..»

16‏/1‏/2012

لنرقص معاً على قبر 2011 !


كان (جحا) وولده راكبين حمارها قاصدين جهة ما ، فمرا على مجلس قوم من رجال البلدة .. فتنامى إلى سمع (جحا) جزءاً من الحوار الدائرة بينهم :
-         « انظروا إلى هذا الرجل عديم الشفقة !! لقد وصل به التبجح لأن يركب هو وابنه على ظهر هذا الحمار المسكين .. أين ذهبت الرحمة بين الناس هذه الأيام ؟! »
نظر (جحا) إلى المتكلم بنظرة صارمة ، ثم أردفها بنظرة أخرى إلى المجلس برمتها ، ثم ابتسم ابتسامة ساخرة وأكمل المسيرة .
فيما بعد ، تعب الأبن من ركوب الحمار ، فطلب من أبيه أن يسير قليلاً بجواره حتى يريح عضلات فخذيه المشدودان من ركوب الحمار .. فتمثل (جحا) للأمر طالما فيه راحة لأبنه .. وترجل الأبن بجوار الأب الراكب على الحمار ..
فمرا على قوم يتكسعون على أحد الأزقة ، فإذا بأحدهم يقول :
-         « أسواء مثال على تدهور وانحطاط القيم العائلية لهو هذا الرجل حقاً .. لقد اتأثر لنفسه بالراحة على حساب ولده الصغير !! لقد صار كل من (هب ودب) لأن يكون أباً .. »
كاد الصغير أن يتدخل بالقول ليدافع عن أبيه ، إلا أن إشارة من يد (جحا) أجبرته لأن يعدل عن قراراه وأن يكمل مسيرته في صمت .
أثناء المسيرة طلب الصغير العودة إلى ظهر الحمار مرة أخرى لشعوره بالإرهاق من الترجل ، فاقترح (جحا) أن يصعد أبنه على ظهر الحمار وينزل هو حتى لا يتعب الحمار بعدما اعتاد على حمولة شخص واحد فقط ، فوافقه الصغير وامتثل .
ومرا على جمع من النسوة يسيرون نحو أحد الأسواق ، فسمع (جحا) مصمصمة شفاة أحد النسوة قائلة إلى رفيقاتها :
-         « إنه حقاً لجيل مائع من الشباب ، انظروا كيف يركب الصغير – بكل تبجح – على ظهر الحمار بينما يسير أبيه بجواره !! لقد ذهب عصر البر بالوالدين بلا رجعة .. واحسرتاه على هذا الزمان.»
كالعادة .. لم يعلق (جحا) بشيء ، إنما فلتت من عينيه نظرة غاضبة تجاه النسوة .. ثم تجاهل الحوار كله ومضى في طريقه.
قبل وصولهما إلى مقصدهما ، قررا أن يسيرا معاً على قدميهما بجوار حمارهما !!
ولأن البلدة لا تخلو من الجائلين هنا وهناك ، فقد مر موكب (جحا) الصغير على بعضاً من حكماء البلدة يقبعون على قارعة الطريق ، فنظر أحدهم إلى الحمار ومرافقيه وقال في حنكة حكيمة:
-         « هذا حمار محظوظ حقاً ، فقد قاده حظه إلى من هو أغبى منه !! انظروا له وهو يمشي معهم في خيلاء يتساوى مع إنسانيتهم .. هل هو عصر ارتقاء الحمير بالبشر ؟! أم لهو عصر الهبوط الإنساني فكرياً وعقلياً وأخلاقياً وأخيراً سلوكياً ؟!»
هنا لم يتمالك (جحا) نفسه أبداً ، ورغماً عنه أصدرت تجاويف أنفه بالاشتراك مع حنجرته بإطلاق حشرجات غليظة متقطعة أشبه بغطيط النائم ، وقام أصبعه الأوسط بتسديدات لا بأس بها تجاه الناس ، فيما تكفل فمه بإطلاق الشنيع من السباب الذي لا يمكن ذكره هنا بأي حال من الأحوال .

* * * * *

من المفترض هنا أن أكتب – بكل ذهول – عن طول فترة الغياب والتي قضيتها بعيداً عن (عرين الغضب) !! ولا مانع من أصبغ كلامي بالكثير من الحكمة والحنكة لأبرر فترة انشغالي الماضية ، بل وأزيد وأحاول التدثر بجلابيب التواضع وانكار صفة الغرور .. وبينما أحاول ذلك ، فأني – حتماً – سأحاول التظاهر بعكس ما أبديت من أسباب .
لذلك .. لنحاول أن نكون متفقين على عدم إبداء الأسباب ..
ليكن الأمر أني لم أكن هنا .. والآن أصبحت هنا !
والآن .. ماذا لدينا لنتحدث عنه ؟!
هناك أحداث عديدة مؤخراً !! أحداث عديدة ومتلاحقة لدرجة أننا مللنا من التحدث عن كل جديد !!
هذه في رأيي هي لعنة التجديد بإفراط سخيف !!
لدينا أعاصير وزلازل حدثت في أرجاء الكوكب ، (تسونامي) الوسيم قرر الظهور مجدداً في أرجاء الكوكب مسبباً الخراب لبعض المساكين !
أيضاً انتهت – أخيراً – أسطورة (الشهيد الحي) المتمثلة في شخص (أسامة ابن لادن) بعد فلاح الأخوة الأمريكان اتخاذ بعض الإجراءات الجادة والعنيفة لإنهاء حياته .. وهو درس يعلمنا بأن لا ننقاد إلى لي عنق الدين حسب أهوائنا، خصوصاً لو احتوت هذه الأهواء بعضاً من الدموية المفرطة يقودها عقلاً لا يضع اعتباراً حقيقياً لحياة الإنسان..
(معمر القذافي) قتِل أيضاً .. وهو على ما أذكر كان يعمل رئيساً لأحد البلدان العربية بطريقة تطوعية ، ربما اختلف معه أبناء شعبه في هذا الشأن ، فقاموا بإنهاء وظيفته بطريقة دموية وغير محببة على الإطلاق!
حفيد ملكة إنجلترا تزوج أخيراً .. إنه الأمير (ويليام) ابن الشهيدة (ديانا) الذي حظي بالارتباط المقدس مع الملاك الرقيق (كيت) ، وهو اسم سخيف جداً لا يفي بتلخيص جمالها ورقتها وعذوبتها! في الحقيقة أنا أنصح الأخوة (الإنجليز) بالتركيز قليلاً على اهتمامهم بتسمية أبنائهم وبناتهم ، خصوصاً لو كانوا يحملون جينات وراثية من الملائكة ذاتها ! عموماً حظ سعيد لذاك (الأصهب) المدلل مع أنشودة الدلال والمعزوفة الجمالية المجسدة في كينونة تدعى اعتباطاً بـ (كيت ميدلتون) ..
لنركز قليلاً على مصر وما مر بها من أحداث في العام المنصرم ..
هناك انفجار كنيسة في أول ربع ساعة من بداية العام الجديد.. ضحايا ، أشلاء ، قتلى ، الفاعل مجهول حتى هذه اللحظة ..
هناك قطار قرر التنزه بعيداً عن قضبانه متسبباً في مقتل بضع البائسين .. لحسن الحظ أنه لم يقرر إشعال بعض النيران للتخلص من البرودة القارصة المميزة لشتاء هذا العام ..
هناك صديق لي أخبرني بأن بطارية حاسوبه المحمول بدأت في الاحتضار ، وصار وقتها الفعلي يتلخص في مدى زمنه مقداره ربع ساعة أو أقل .. ولهذا أنا أشعر بالأسف من أجله !
لحظة ..
هناك حدث ما ..
مصر استيقظت على بركان ثوري هادر ..
اللعنة .. كيف لم أتذكر هذا الحدث الهام منذ البداية؟!
(ثورة المصريين) ..
لقد حان الوقت لأن ينقشع الظلم عن هذا البلد أخيراً !!
ستعود مصر إلى العصور الزاهية كما كانت من قبل !!
لكن .. متى كانت مصر تعيش عصور زهو ورخاء ؟! منذ آلاف السنين ربما ؟!
لا يهم ، سيعود الرخاء بطريقة ما ..
لنحضر أنفسنا للأمان والطمأنينة ، فقد ذهب ضباط الشرطة الملاعيين الرعناء بلا رجعة بعد انكسرت شوكتهم التي استقرت في حلوقنا – نحن المصريين – عشرات السنين !! نعم .. فلن نخشى من اليوم مواجهة هؤلاء الأوغاد القساة ، لتكن صفحة جديدة في تاريخ الآمان في مصر ..
لكن .. معدل الجريمة ارتفع في مصر إلى 400% بعد الثورة ؟!
هل لدينا نحن المصريين نوايا إجرامية إلى هذه الدرجة ؟! سرقة وقتل واختطاف واغتصاب وتحرش ونصب ومخدرات وبلطجة !!
لابد أن الشعب كان مكبوتاً أثناء العصر الذهبي لوزارة الداخلية المنكوحة هي ورجالها الأوغاد ..
نعم .. لابد أن هذا هو السبب !!
إذن لا داعي للخوف والهلع ، فهذا هو الوقت المناسب لرجال الدين لكي يشدوا العزم والاستعداد للمرحلة القادمة لبناء مصر جديدة تتسم بالأخلاق والتسامح والتأخي ..
لكن .. أين هم رجال الدين يا ترى ؟!!
أووه .. أنهم مشغولون بامتطاء ظهر الثورة واعتلاء الأحداث الجارية بكفاءة وتبجح يحسدون عليها ..
لابد أن بعضهم سيتجه إلى السلك السياسي متعللين بأنهم أقدر من يستطيع إدارة دفة البلاد إلى جنات الآمان .. لماذا نمارس السياسة مع الشعب طالما يمكننا ممارسة السياسة مع الله ؟! فهو من سيعطينا كل ما نتمناه عن طريق السياسة .. إذن في هذه الحالة ليكن (الإسلام هو الحل) ..
هل حدث ذلك بالفعل؟! اللعنة إذن ..
لكن لا يهم .. لدينا خيار أخر برغم كونه غريباً بعض الشيء في هذه الحقبة بالذات ..
لدينا القوم الذين يتفاخرون بهرموناتهم الذكورية المشعرة !
أنه وقت العودة إلى (الله) القديم .. ذاك الإله المربوط والمقيد بعصر معين ولا يمكنه الخروج منه ! حيث كل شيء حرام × حرام .. بينما كل حلال بين هو مجرد حرام مشكوك في أمره ، وحيث يتحول المرء إلي كيان ديناميكي من الشك الموسوس في أبسط القواعد الحياتية العادية !
عموماَ دعونا لا نستبق الأحداث ، لنعطي هؤلاء السادة الأجلاء فرصة لتحسين صورتهم ، ومن ثم تحسين الحالة الاجتماعية لدولة (مصر) ..
أما بخصوص الشرطة الدينية (جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ومستقبلها في مصر ، فأنا لا أتوقع لها أي مستقبل حقيقي يذكر في بلادنا!! فالفكرة برمتها (طرحاً وتنفيذاً) هي مجرد تصور مضحك ومقزز في ذات الوقت .. إنها أشبه برجل يتغوط في إحدى بلدان قارة (آسيا) ، ليتساقط خراءه عليك أثناء جلوسك تحت سقف غرفة نومك !
وماذا عن القوم الليبراليين؟!
بغض النظر إلى افكارهم المتعارف عليها عند عامة الناسة بأنهم قوم داعين إلى الخلاعة واللواط وانتشار العري الإباحي ومعاقرة الخمور، هل في دعوتهم شيء جاد من الناحية السياسية ؟!
هل يمكن أن تشيع الليبرالية كفكر فردي بين المصريين ؟!
فالليبراليه هي اللبنة الأولى لبناء دولة علمانية ، ودولة مصر ككيان شمولي لا يمكن تصور وضعه داخل دائرة علمانية عامة .. إذن لا يمكننا أن نتكلم عن مستقبل سياسي ليبرالي بعين قريرة ..
علينا أولاً أن نقنع ألكترونات ذرة برادة معدن (الألمونيوم) أن تنجذب بحفاوة نحو مغناطيس متوسط الحجم (وإن كان أهمية الحجم معدومة هنا) !
حسناً .. أعترف بضيق أفقي لاستشفاف مستقبل مصير مصر السياسي ، تاركاً هذه المهمة للمجلس العسكري ليقررها هو وزمرته ، مع حق الزعم بأن القرار سيكون بيد الشعب "طبعا" ..
لنتحدث عن التغير الذي أصاب المصريين أنفسهم بعد الثورة ..
أمممم .. ليس التغير المطلوب لإبقاء شوارعنا نظيفة من القذارة والبصاق للأسف ، ولا التغير المنشود لارتقاء الأخلاق السامية ، فلازال هناك سائق سيارة يكيل السباب وربما اللكمات إلى أحدهم على قارعة طريق سريع أو مكان شاغر كفيل بركن سيارة أحدهما ، ولازال ذاك الشاب الرقيع يتحرش بإحداهن كلامياً أو تلامسياً !!
ولازال يتواجد الموظف الحكومي القابع وراء مكتبه ذو الدرج المفتوح ليتلقى رشوة من أحد المواطنين المشوب بـ (الفهلوة) ليقضي حاجته التي يمكنه قضاؤها بدون أية مصاريف إضافية سيئة السمعة!!
التغير الحقيقي الذي لمسته هو بروز عدة انقسامات وشروخ في صرح الكيان المصري ، من قبل كان يوجد (مسلم ومسيحي) ، وصار الآن (سلفي وأخوانجي ومسيحي وليبرالي كافر وعلماني ملحد وماسوني وفلول وتحريري وعباسي "نسبة إلى الميدانين").. وكل منهم يتفاخر بحبه الجارف للبلد ، ولا يتوانى عن تسديد التهم إلى الآخرين بدعوى الخيانة والتمهيد للتدخل الخارجي في شئون البلاد الداخلية ..
لقد بدأت الأحداث بصورة مفاجئة .. لكنها متوقعة بطريقة ما !
أما التداعيات التي جاءت فيما بعد ، فهي للأسف باعثة للملل والشك في مصداقية المعنى الحقيقي الذي يقفز إلى الذهن كلما ترددت لفظة (ثورة) ..
لذلك فأنا أعتبر أن ثورات البلدان مؤجلة كلياً حتى تكتمل ثورة النفوس ذاتها .. الأمر أشبه بصنع عقد فاخر من اللآلئ اللامعة لكنها غير مثقوبة، بينما يمني صاحب العقد ويشيد بأناقته حالما يرتدي هذا العقد !
معذرة إذا لم أشارك المحتفيين بالثورة ..
ربما لسوداوية طباعي ، أو لسبب أخر أجهله ..
على أيه حال كان لابد من أن أفصح عما بداخلي تجاه هذا الشأن تحديداً ..
ألقاكم قريباً ..

* * * * *

-         « هل سمعت ما الذي قاله (جحا) بالأمس أثناء شجاره مع حكماء البلدة ؟! »
هكذا قال أحد الجالسين في المقهى ليبدأ نوبة حوارية أخرى مع صديقه لقتل الملل والوقت ..
فرد عليه صديقه :
-         « نعم .. لقد تفوه هذا البذيء المعتوه بألفاظ نابية كثيرة في حق سكان البلدة !! لقد قال شيئاً مبهماً عن حمار وطفل صغير، وأشياء أخرى عن (مرآة النفس) والمحاكمات السريعة التحضير والقرارات المسلوقة والمرتجلة !! »
-         « هذا ملخص سريع لما حدث بالأمس ، لكن هناك شيئاً واحداً سمعته ولم أفهمه !»
-         « وما هو ؟!»
-         « لقد كان لحوحاً ومصراً وهو يطالب الناس كلها بالكف عن تخيل أنفسهم بمكانه حماره ‍!»